إيمي نويثر مُدرسة اللغات التي غيرت معالم الرياضيات

عالمة رياضيات اشتهرت بإسهاماتها الهامة في علم الجبر التجريدي والفيزياء النظرية، حصلت على مكانة علمية بين علماء عصرها، ووصفوها بأنها أهم امرأة في تاريخ الرياضيات

مركز الأخبار ـ .
إيمي نويثر مُدرسة اللغتين الإنكليزية والفرنسية استطاعت أن تكتشف أخطاء كبار علماء القرن الماضي في الفيزياء والرياضيات، وتحدت قوانين الأنظمة الألمانية التي حاولت أن تثبط من عزيمتها.
 
سلكت الطريق الصعب لكنه لم يكن مستحيلاً
ولدت أماليا إيمي نويثر في 23 آذار/مارس عام 1882 في مدينة إرلنغن بولاية بافاريا الألمانية، وسط عائلة يهودية مهتمة بمجال العلم، فهي ابنة بروفيسور الرياضيات ماكس نويثر، الذي عمل مُدرس في جامعة إرلنغن، والأخت الكبرى لألفريد نويثر الحاصل على شهادة الدكتوراه في الكيمياء، وفريتز نويثر الأكاديمي في مجال الرياضيات التطبيقية، أما غوستاف نويثر لم يعرف الكثير عنه حيث كان يعاني من مرض مزمن.
في مرحلة الثانوية تعلمت العزف على البيانو، كما درست اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وتخرجت من الثانوية عام 1897، وبدأت بتدريس اللغات في مجال اختصاصها، إلى أن حصلت على درجة "جيد جداً" في اختبار الشهادة لتدريس اللغتين الفرنسية والإنجليزية بولاية بافاريا الألمانية عام 1900.
وعلى الرغم من تخرجها بدرجة عالية إلا أنها لم تزاول مهنة التدريس بعد ذلك، لأنها قررت دراسة الرياضيات، في الوقت الذي منعت فيه النساء من الدراسة كطالبات بدوام كامل في جامعة إرلنغن، لأن هيئة التدريس في الجامعة أوضحت أن التعليم المشترك سوف يفسد النظام الأكاديمي، إلا إن الجلوس في الدورات كمستمع حر كانت فرصة متاحة لهن، أي دون الخضوع لأي اختبار أو الحصول على علامة، بالإضافة لموافقة البروفيسور في كل دورة.
ومع ذلك لم تواجه أماليا إيمي نويثر والتي دائماً ما كانت تُدعى باسم "إيمي"، صعوبات مع زملاء والدها، فقد سمحوا لها بأن تُمتحن في نهاية المطاف، لذلك استطاعت الاشتراك في العديد من الدورات بجامعة إرلنغن، منها ما يخص الرياضيات والبعض الآخر في الدراسات الكلاسيكية التي اعتبرت أول فرع من فروع العلوم الإنسانية شملت اللغات والأدب والتاريخ والفن، وغيرها من الجوانب الثقافية القديمة.
كانت واحدة من بين امرأتين فقط تدرسان في الجامعة مع 984 طالب من الذكور، ونجحت فيما بعد باجتياز امتحانات القبول بالجامعة في تشرين الثاني/أكتوبر لعام 1903، إلا إنه لم يسمح لها رسمياً بالدراسة بعد نجاحها في الامتحان.
فدرست فصل واحد كمستمعة حرة في موسم الشتاء من عام 1903 ـ 1904 في جامعة غوتنغن بولاية ساكسونيا الألمانية، التي كانت آنذاك مركز عالمي في مجال الأبحاث الرياضية، وشاركت في بعض الدورات عند أبرز العلماء كالفيزيائي والفلكي الألماني كارل شفارتسشيلد، الذي قدم أول حل دقيق لمعادلات ألبرت أينشتاين في نظرية النسبية العامة، وعالم الرياضيات الألماني ديفيد هيلبرت أحد أبرز رياضيي القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
 
تخطت الحدود الموضوعة أمام تقدم المرأة
بعد أن أُلغيت القيود على حضور النساء المحاضرات في جامعة إرلنغن، عادت إيمي نويثر إلى الجامعة، والتحقت بها رسمياً في تشرين الأول/أكتوبر لعام 1904، بعد أن أنهت فصل الدراسة في جامعة غوتنغن، لكن هذه المرة ركزت على الرياضيات فقط، وحصلت على تقدير لدراساتها السابقة.
كما حصلت على شهادة الدكتوراه في الرياضيات بعلامة امتياز عالية عام 1907، تحت إشراف أستاذ الرياضيات في جامعة إرلنغن، بول جوردان، صاحب نظرية الثابت التي نصت على أن مجموعة من الثوابت من أشكال ثنائية من درجة ثابتة يتم إنشاؤها بشكل محدود.
وبعد حصولها على شهادة الدكتوراه درست إيمي نويثر مجال اللامتغيرات متعددة الحدود، وهو فرع من علم الجبر يتعامل مع إجراءات المجموعات الرياضية أو الأوراق الجبرية، بعد أن حدد عالم الرياضيات ديفيد هيلبرت السمات الأساسية لللامتغيرات بحل نظري نهاية القرن التاسع عشر، واستطاعت أن تنشر رسالة علمية تضمنت تطوير طرق عملية لحل السمات الأساسية لللامتغيرات.
وقامت بالتدريس في معهد الرياضيات بجامعة إرلنغن بين عام (1908 ـ 1915) دون أجر مقابل ذلك، بدلاً عن والدها الذي كان في وضع صحي لا يسمح له بإلقاء المحاضرات، وخلال عامي 1910 و1911 نشرت ملحق لرسالتها العلمية تضمن تحويل ثلاثة متغيرات إلى متغير واحد أطلقت عليه اسم المتغير (ن).
وبعد انتقالها إلى جامعة غوتنغن أوائل عام 1915، توفيت والدتها فجأة في مدينة إرلنغن، ولأسباب مجهولة.
 
صاحبة "مبرهنة نويثر" الشهيرة
في عام 1915 نشر عالم الفيزياء الألماني ألبرت أينشتاين نظريته الشهيرة "النظرية النسبية العامة"، التي ظهرت فيها مشكلتين تم الكشف عنهما في العام نفسه من قبل ديفيد هيلبرت وكريستيان كلاين صاحب نظرية الزمر، اللذان كانا يدرسان المصطلحات الرياضية في نظرية ألبرت أينشتاين.
وخلال تواجدها في جامعة غوتنغن بعد دعوة تلقتها من قبل ديفيد هيلبرت وكريستيان كلاين، طلبا منها أن تجد حلاً لمشاكل الطاقة المحفوظة في نظرية ألبرت أينشتاين، ونظراً لتخصصها في قسم اللامتغيرات الجبرية، استطاعت حلهما وأثبتت أن الأولى تتعلق بأسطح ريمان كان قد استخدمها ألبرت أينشتاين لوصف المباني أحادية البعد.
أما المشكلة الثانية فقد ربطتها بقانون حفظ الطاقة ضمن إطار النظرية النسبية العامة، وقد ساهم حلها للمشكلة في فك شيفرة العلاقة بين تناظر النظام الفيزيائي وقوانين انحفاظ الطاقة، وبذلك وفرت التفسير الرياضي لقوانين حفظ الطاقة وحفظ قوة الدفع، كما أن نظريتها احتلت أهمية فيزيائية في العديد من التطبيقات ابتداءً من هندسة السيارات وصولاً لحساب مسارات الأجرام السماوية.
وفي سياق محاولتها لاكتشاف الحلول لمشاكل نظرية ألبرت أينشتاين استطاعت أن تبرهن أهم الأفكار في الفيزياء النظرية، وجمعت براهينها في مبرهنة واحدة سميت "مبرهنة نويثر"، قامت بنشرها عام 1918.
قال عنها عالما الفيزياء الأمريكيان ليون ليدرمان وكريستوفر هيل في كتابهما "التماثل والكون الجميل"، "أن نظرية نوثير هي بالتأكيد واحدة من أهم النظريات الرياضية التي أثبتت تطور الفيزياء الحديثة وربما كانت على نفس القدر من المساواة بنظرية فيثاغورس"، كما وصفها ألبرت أينشتاين بأنها جزء من التفكير الرياضي بعيد النظر.
وفي عام 1919 سمحت لها إدارة الجامعة بالتدريس وإلقاء المحاضرات ولكن دون إعطائها أي أجر لقاء ذلك، بعد ثلاث سنوات حصلت على أجر بسيط جداً ولكن دون تمتعها بأي صفة أو منصب أو مكانة رسمية في الجامعة، كل ذلك لكونها امرأة ومن أصول يهودية.
 
الحلول التي قدمتها في مجال الجبر التجريدي
وعلى الرغم من أن نظريتها كان لها تأثير عميق على الفيزياء، إلا أن التأثير الأكبر كان في مجال الرياضيات نظراً لمساهماتها الواضحة في تطوير الجبر التجريدي، وقد كانت من أحد مؤسسي هذا المجال.
فقد بدأ عملها في الجبر عام 1920، ونشرت بعد ذلك مقالة حول نظرية "المُثل العليا" التي حددت فيها مع عالم الرياضيات فيرنر شميدلر المُثل اليمنى واليسرى في الحلقة.
كتب عالم الرياضيات ناثان جاكوبسون في مقدمة بحثه مادحاً دورها في الرياضيات قائلاً "إن تطور الجبر المجرد، يعد واحد من أهم الابتكارات المميزة للرياضيات في القرن العشرين، ويرجع ذلك إلى حد كبير لإيمي نويثر من خلال أبحاثها المنشورة في المحاضرات".
نشرت إيمي نويثر في عام 1921 مقالة بعنوان "النظرية المثالية في مناطق الحلقة"، شرحت فيها حالات السلسلة المتصاعدة فيما يتعلق بالمُثُل الرياضية، كما علق عالم الجبر الشهير إرفينغ كابلانسكي على مقالتها ووصفها بأنها ثورية، وأدت هذه المقالة إلى ظهور مصطلح "الحلقة النويثرية" وتسمية العديد من المواضيع الرياضية الأخرى باسمها.
وكان عملها حول نظرية "المثل العليا" أساساً في الجبر التجريدي، وحصلت من خلاله على ما يكفي من التقدير ودعيت كأستاذ زائر في جامعة موسكو الروسية ما بين عامي (1928 ـ 1929)، وفي جامعة فرانكفورت الألمانية عام 1930. 
كما نشر عالم الرياضيات الهولندي بارتل ليندارت فان دير ويردين عام 1931 كتابه الشهير بعنوان "الجبر الحديث"، الذي تستند أجزاء كثيرة منه على نظريتها، وتكشف هذه القصة جانب التعاون الذي قدمته إيمي نويثر لعلماء الرياضيات الذين حصلوا على مكانة بفضل أعمالٍ قامت بها، وأُطلق على طلابها أبناء نويثر نظراً لتميزهم عن غيرهم في هذا المجال تحديداً.
وفي عام 1932 حصلت على جائزة أكرمان تيوبنر التي منحتها جامعة لايبزيغ الألمانية لعلماء الرياضيات البارزين.
 
نهاية مسيرتها
عندما وصل النازيون إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، تم فصل إيمي نويثر كونها يهودية مع العديد من الأساتذة اليهود الآخرين الذين درسوا في الجامعات الألمانية، حيث توجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ساعدها ألبرت أينشتاين في الحصول على وظيفة بروفيسور في كلية برين ماور التي تأسست عام 1885، وهي كلية نسائية مرموقة في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، ولأول مرة في حياتها تمتعت بالتقدير المهني، وحصلت على أجر وظروف عمل جيدة.
قامت بإجراء العديد من الأبحاث في معهد برينستون للدراسات المتقدمة بولاية نيو جرسي الأمريكية، الذي أنشئ لإجراء الأبحاث النظرية والتحقيق الفكري عام 1930، على يد المعلم الأمريكي أبراهام فليكسنر، كما ألقت فيه المحاضرات الأسبوعية.
لكن طريقها الجديد لم يكن طويل ففي نيسان/أبريل 1935، أي بعد حوالي عام ونصف فقط من تواجدها في الولايات المتحدة، تم اكتشاف ورم خبيث في الرحم، وعلى الرغم من خضوعها لعملية استئصال لهذا الورم، إلا أنها وبعد مرور أيام قليلة توفيت بسبب مضاعفات العملية في الرابع عشر من الشهر ذاته.
"عندما نأخذ بالحسبان مهارات وقدرات علماء الرياضيات اليوم، نجد أن إيمي نويثر كانت مبدعة وخلاقة بصورة استثنائية، وأكبر عبقرية رياضية منذ أن أصبح التعليم العالي متاح للنساء" بهذه الكلمات مدح الفيزيائي ألبرت أينشتاين عالمة الرياضيات إيمي نويثر. 
عبقرية أيمي نويثر جعلت لها مكانة بين علماء عصرها، وعلى وجه الخصوص في مجالي الرياضيات والفيزياء، ومن خلال تسليط الضوء على حياتها كان بالإمكان ملاحظة عدم وجود المساواة في معاملة النساء مع الرجال في الأوساط الأكاديمية، هذا ما أكدته بقولها عندما ينكسر التماثل فهذا يعني فقدان شيء ما.