أنيتا كاراكوتشيان "سيدة البحر" رائدة علم البحار والمحيطات

قضت الرائدة في التصوير الفوتوغرافي البحري وصاحبة مقولة "البحر مرآة تعيدنا إلى جهلنا" معظم حياتها في توثيق الحياة على متن سفن الصيد والدفاع عن نشاط صيد أكثر تنظيماً عبر الصور والمؤلفات التي بقيت إرثاً للأجيال القادمة

مركز الأخبار ـ .
أنتيا كاراكوتشيان التي لقبت بـ "سيدة البحر" أول امرأة فرنسية اختصت بعلم المحيطات والبيئة البحرية، مصورة وكاتبة ركزت على الطبيعة والبحر، نبهت من خلال أبحاثها الرأي العام وحذرته من الأضرار التي تلحقها الآليات الصناعية (التقليدية) على صيد السمك والبيئة في آن واحد.
 
بداية مسيرتها العلمية
ولدت الأرمنية أنيتا كاراكوتشيان في 17 أيار/مايو 1899 في مدينة إيرمونت في العاصمة الفرنسية باريس، تعود أصول والديها ليفون كاراكوتشيان وأليس كاراكوتشيان إلى القسطنطينية.
أمضت أنيتا كاراكوتشيان الشغوفة بالبحر والكتب طفولتها تسافر مع عائلتها حول العالم، كانت عائلتها منفتحة على الثقافات والعادات المختلفة للبلدان التي زارتها، على إثر ذلك تلقت تعليما خاصاً من قبل العديد من المعلمين في المنزل.
استفادت من الفرصة المتاحة لها في التنقل بين البلدان في الاستكشاف والدراسة، وبدأت بكتابة الشعر عندما انتقل سكن العائلة إلى العاصمة الفرنسية باريس على الرغم من صغر سنها.
تعلمت وهي طفلة السباحة والإبحار وركوب قوارب الصيد بانتظام، قبالة سواحل مدينة بروتاني وخليج فندي الذي يقع على المحيط الأطلسي لأمريكا الشمالية.
طورت أنيتا كاركوتشيان شغفها بالكتب والبحر خلال سنوات المراهقة، وبدأت في التصوير عام 1914، أي في نفس العام الذي قرر والداها الاستقرار في جزيرة اوليرون الواقعة قبالة الساحل الأطلسي لفرنسا بداية الحرب العالمية الأولى.
تطور اهتمامها بالتصوير الفوتوغرافي بشكل أساسي في عام 1917، أثناء رحلاتها على طول ساحل المحيط الأطلسي الفرنسي، إلى أن قررت الاختصاص بعلم المحيطات.
في نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) انتقلت أنيتا كاراكوتشيان إلى باريس، جهدت هناك للتعلم نسخ وطباعة الكتب الفنية، حيث قامت بنسخ وطباعة وتجليد كتب لمختلف الكتاب والمؤلفين منهم الكاتب الفرنسي بيير ماك أورلان والشاعر والروائي السويسري بليز سيندرارز، حصلت على العديد من الجوائز الفنية الهامة على أعمالها التي لفتت انتباه الكثير من الفنانين في لندن وباريس ونيويورك وبروكسل.
 
العمل التقني والحياة على متن سفن الصيد
في عام 1927، تزوجت أنيتا كاراكوتشيان من الدبلوماسي الإيطالي مارسيل كونتي، لتشتهر فيما بعد بلقب زوجها أي أصبح اسمها "أنيتا كونتي"، وبسبب طبيعة عمله سافرت مرة أخرى حول العالم وجابت كل البحار، واصلت اهتمامها بعلم المحيطات بدءاً من نباتاته وحيواناته، عبر تاريخه وجغرافياته، وصولاً إلى الكيمياء والفيزياء، قرأت كل ما استطاعت قراءته عن البحار.
اعتمدت على نفسها في التعرف على علم المحيطات بشكل أعمق، فخلال الرحلات البحرية التي قامت بها في قوارب صيادي الأسماك، دونت كل ما شاهدته ووثقته بتقارير ونشرتها في الصحف، تضمنت تقاريرها مشاكل الصيادين والمخاطر التي واجهوها وكافة الأضرار التي تلحق بالبيئة. 
اكتشفت خلال تلك الرحلات أنواعاً جديدة من الاسماك في بحار وأنهار أفريقيا لم يكن قد قام أحد بتوثيقها من قبل، وعملت على استكشاف مناطق صيد جديدة وطرق أكثر فعالية، تتبعت كافة تحركات وتقلبات البحر على مدى أيام وأسابيع وشهور. أوجدت على مدار عامين من رحلاتها تقنية رسم خارطة الملاحة في البحار والمحيطات، وعملت على تطوريها.
في عام 1934، تم تعيينها من قبل عالم الأحياء البحرية ومدير الهيئة الحكومية المسؤولة عن الإدارة العلمية والتقنية لمصايد الأسماك "OSTPM" سابقاً (حالياً IFREMER)، الفرنسي إدوارد لو دانوا (1887 ـ 1968)، في المكتب العلمي والتقني للمصايد البحرية كرئيسة للدعاية والعلاقات الصحفية والتقارير الفوتوغرافية.
دعيت أنيتا كونتي في عام 1935 من قبل المكتب للعمل كأول مصورة فوتوغرافية وكاتبة تقارير على متن أول سفينة أوقيانوغرافية فرنسية للرئيس تيودور تيسييه خصصت لبحوث المحيطات ومصايد الأسماك التي كانت تستعد للإبحار العلمي في نفس العام، وتمثل دورها أيضاً في العمل كمراقبة لتقنيات الصيد ورسم الخرائط ودراسة قاع البحر والمياه وعمق مناطق الصيد من أجل تحسين نشاط البحارة والصيادين.
التحقت كمراقب تقني لسفن الصيد التي عملت في خليج بسكاي والبحر الايرلندي وكندا، تولت مسؤولية الوصف العملي لهذه المصايد، وقامت ما بين عامي 1936 و1938 بإجراء أبحاثاً علمية في محيطات الهادي والهندي والمتجمد.
بين الحربين العالميتين، بدأت في رسم خرائط الصيد الأولى، في وقت كانت فقط خرائط الملاحة متاحة. ساعد نشاطها العلمي في تسريع ممارسات الصيد في أعالي البحار.
خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، أُسند إلى أنيتا كونتي تنظيم وقيادة عملية تفكيك الألغام المحيطة بالسفن الفرنسية الملغومة من قبل الألمان بصفتها أول امرأة تشرع في خدمة البحرية الوطنية الفرنسية.
شرعت في رحلة إلى القطب الشمالي على متن سفينة صيد سمك القد "فايكنج" لمدة ثلاثة أشهر من حزيران/يونيو إلى أيلول/سبتمبر 1939، وأثناء الحرب العالمية الثانية شرعت في المياه الأفريقية ما بين عامي 1941 و1945 عبر مياه بحر بارنتس شمال النرويج.
انخرطت في مشروع إصلاحي للمساهمة في تطوير وإدارة مصايد الأسماك في الأقاليم الثمانية التي تشكلت غرب أفريقيا الفرنسي، والتي تشمل السنغال والسودان الفرنسي (مالي حالياً)، موريتانيا، غينيا وساحل العاج والنيجر، فولتا العليا (بوركينا فاسو حالياً)، وجمهورية بنين (داهومي). وساهمت في دراسة الحيوانات المائية في افريقيا لمعهد افريقيا السوداء، بقيادة العالم والمستكشف الفرنسي تيودور مونو (1902 ـ 2000)، جعلها نشاطها ومساهمتها في إجراء الدراسات رائدة في الحفاظ على التنوع البيولوجي للمحيطات.
دونت أنيتا كونتي ملاحظاتها والتقطت صوراً، ونشرت تقاريرها في الصحيفة الرسمية للجمهورية الفرنسية "La République"، كصحفية ومتخصصة في عالم الصيد.
أجرت ما بين عامي 1943 و1953 أبحاثاً عن التنوع البيولوجي لقاع البحر والسواحل ومصبات الأنهار وأنواع الأسماك وقيمها الغذائية، واستكشفت سواحل غرب افريقيا من وادي جزر موريشيوس إلى السنغال، ومن غينيا إلى ساحل العاج، ودرست الأساليب التي تضر بالبحر والأسماك وطورت أساليب جديدة.
خلال تلك السنوات العشر قامت أيضاً بإعادة تموين السكان والجيش الفرنسي، كان من أهم أهدافها إنقاذ السكان من الجوع وإيجاد حلول غذائية فيما يتعلق بنقص البروتين لديهم.
 
مؤلفاتها وأرشيفها الشخصي
 بدافع من رغبتها في إظهار الحياة اليومية للصيادين وقسوة عملهم، التقطت أنيتا كونتي أكثر من 5000 صورة خلال رحلة شمال المحيط الأطلسي قبالة سواحل كندا وجرينلاند. دائما ما كانت جاهزة مع كاميرتها وجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها.
شاركت أنيتا كونتي في مختلف الحملات، من خليج بسكاي إلى نيوفاوندلاند. في عام 1952 شرعت في مياه المحيط المتجمد الشمالي على متن سفينة صيد سمك القد الفرنسية "Bois-Rosé" خلال الأشهر الخمسة من موسم الصيد، تحدثت عن رحلتها تلك في كتابها "كاشطات المحيط Racleurs d'océans" الذي نشر في عام 1953، وهو من أول مؤلفاتها، حذرت فيه من الكميات الهائلة من الأسماك التي نهبت من قبل الصيادين وعبرت من خلال صورها عن صعوبة الحياة على قوارب الصيد.
عادت إلى فرنسا في خمسينيات القرن الماضي، وسردت تجربتها في افريقيا ورحلاتها عبر شمال الأطلسي وكندا في كتابها "عمالقة البحار الدافئة Géants des mers chaudes" الذي نشر في عام 1957، موثقة إياها بآلاف الصور، وقد احتوى الكتاب على خمسة إصدارات عن مصايد الأسماك الأفريقية.
في ستينيات القرن الماضي أصبحت أنيتا كونتي رائدة في تربية الأحياء المائية من خلال اقتراح تربية الأسماك للاستهلاك السكاني وإعادة توطين البيئة البحرية، على ساحل البحر الأدرياتيكي قامت بتربية الأسماك في أقفاص مغمورة وفي بحر الشمال أسست مزارع لتربية الأحياء المائية.
أصدرت بياناً في عام 1971 يتعلق بموضوع كيفية تسبب الرجال بالكوارث في المحيطات، ونشر بيان أنيتا كونتي في كتابها (المحيط، الوحوش والإنسان Océan.Les Betes et L'Homme)، وشاركت في العديد من المؤتمرات والاجتماعات المختلفة قيمت فيها أبحاثها التي أجرتها على مر السنوات حول تحسين البيئة.
نشرت مقالات متعددة في مجلات نسائية منها مجلة "le journal idéal de la Femme"، وفي إحدى نصوصها شكت من سوء الظروف الصحية في مزارع المحار في بروتاني.
لم تتوقف أنيتا كونتي عن الإبحار إلا قبل سنوات قليلة من وفاتها في الخامس عشر من كانون الأول/ديسمبر 1997 في مدينة دورنينيز الفرنسية عن عمر ناهز 98 عاماً، ونثر برمادها في بحر إيرواز بالقرب من القنال الإنجليزية، حيث كرست ما بقي من حياتها في تقديم المؤتمرات وإدانة التأثير البشري على المحيطات في كافة المنتديات الممكنة.
 
إرث للأجيال القادمة
حفظ أرشيفها الشخصي المتنوع والغني في أرشيف بلدية مدينة لوريان الفرنسية، تم قياسه ودراسته من قبل صانعة الأفلام الوثائقية كلوتيلد ليتون في كتابها لعام 2014، وهو عمل مصور كبير الحجم يتضمن أكثر من 200 وثيقة تمثيلية لحياة وتجارب أنيتا كونتي.
حصلت كتبها الثلاثة عن مصايد الأسماك على جوائز أدبية مختلفة وترجمت إلى عدة لغات، أعيد إصدارها باللغة الفرنسية بشكل رئيسي ما بين عامي 1992 و2017.
أعيد إصدار سبع نسخ من كتابها "كاشطات المحيط"، وتمت ترجمته في عام 1955 إلى اللغة الإسبانية باسم "أخاديد المحيط Surcadores de oceanos" واللغة الإنجليزية باسم "ملحمة البحار Deep Sea Saga".
تتضمن وثائق أنيتا كونتي الأصلية حوالي 50000 صورة فوتوغرافية و2265 كتاباً في مكتبتها الخاصة، إلى جانب حوالي 1430 عنصراً مختلفاً يشمل عينات من الحيوانات والخضروات والمعادن.
بالإضافة إلى 178 تسجيلاً صوتياً وصلت إلى 120 ساعة كمدة تقديرية، تتضمن مقابلات إذاعية ومؤتمرات وغيرها، والآلاف من الوثائق الورقية التي تنقسم بين نصوص مكتوبة بخط اليد ومنها مطبوعة وحوالي 1000 وثيقة أيقونية تتضمن رسومات وتوضيحات للأسماك.
ساهم ابنها بالتبني، الفنان التشكيلي لوران جيرولت كونتي، بشكل فعال في إعادة تقييم أعمال وأبحاث والدته والحفاظ عليها من خلال تحرير ونشر الكتب التي تحتوي على صورها ونصوصها، من أبرزها كتاب "مفكرة الفايكنج. 70 يوماً في بحر بارينتس"، جمع فيها الوثائق الغير منشورة التي حصلت عليها أنيتا كونتي خلال السبعين يوماً التي عملت فيها في مياه بحر بارنتس.
كما شارك في كتابة نص "أنيتا كونتي.. سيدة البحر" الذي يحتوي على 30 صورة فوتوغرافية تعود لعام 1930 حتى عام 1960، وتتألف من طبعتين صدرتا في عام 1998 و2001، بالمشاركة مع جمعية "Cap sur Anita Conti" التي أنشأها لوران كونتي في عام 1992 لترويج أعمالها ونشرها.
وعمل على كتاب "منظور امرأة في حرب الألغام في دونكيرك 1939 ـ 1940" تضمنت أعمال أنيتا كونتي من نصوص وصور خلال عملها في تفكيك الألغام بداية الحرب العالمية الثانية.
حتى الوقت الحاضر، وتقديراً لها سميت 6 مدارس وكليات ومعاهد على الأقل في فرنسا باسم أنيتا كونتي.