وسط الحصار والقصف... أطفال غزة يحاولون استعادة حقهم في التعليم

يعيد افتتاح المدرسة الكاملية شرق غزة الأمل لآلاف الأطفال بعد أكثر من عامين من الانقطاع عن التعليم وسط حرب أنهكت البنية المدرسية وحرمتهم حقهم الأساسي في التعلم.

نغم كراجة

غزة ـ في لحظة تبدو استثنائية وسط دوامة الحصار وتآكل كل مقومات الحياة، أعادت المدرسة الكاملية شرق مدينة غزة إشعال شمعة التعليم بعد أكثر من عامين من الانقطاع التام، لتتحول من مبنى متهالك شُيّد قبل ثمانية عقود إلى مساحة تُستعاد فيها أبجديات الطفولة التي صادرتها الحرب، بين حجارتها القديمة، وغياب أي بنى تحتية مدرسية تُذكر، نشأت مبادرة تعليمية في واحدة من أكثر المناطق خطورة، باعتبارها محاولة لانتزاع حق الأطفال في التعلم، وترميم ما يمكن إنقاذه من مستقبلهم القريب.

المعلمة دينا أبو شعبان، التي تتصدر هذا الجهد، تتحدث بصوت يفيض بما يشبه الانتصار على اليأس قائلة "كان افتتاح المدرسة نافذةً يتدفق منها نور جديد لآلاف الطلبة، خصوصاً أولئك الذين لم يحصلوا على فرصتهم الأساسية في التعلم خلال سنواتهم الأولى. بدأنا من العدم؛ لم نجد مقعداً واحداً أو لوح كتابة داخل الصفوف، وكل ما توفر لنا كان بعض قطع الكرتون التي استخدمناها للشرح، بينما يجلس الأطفال على الأرض، ومع ذلك واصلنا العمل واستطعنا خلال أشهر استيعاب أكثر من ألف طفل في فترتين صباحية ومسائية، بعد أن وفرنا مقاعد بسيطة وألواحاً للكتابة".

ورغم أن المدرسة، المبنية من حجارة قدسية يعود تاريخها إلى عشرات السنين، تفتقد لأغلب المرافق والوسائل التعليمية، إلا أن أثرها النفسي على الأطفال بدا واضحاً، فقد أعادهم شكل المبنى التراثي إلى أجواء التعليم الطبيعي، وكأنهم يمسكون بخيط رفيع يربط حاضرهم المضطرب بماضٍ أكثر استقراراً.

وتقول دينا أبو شعبان إن المدرسة أعادت كذلك طقوس الحياة المدرسية التي افتقدها الأطفال "ننفذ برنامج الإذاعة المدرسية، ونحيي المناسبات الوطنية؛ وكان آخرها فعالية يوم الاستقلال، هذه التفاصيل الصغيرة تصنع فرقاً كبيراً في نفسية التلاميذ الذين يعيشون حرباً مفتوحة".

وتكاد المدرسة تكون الوحيدة التي استعادت نشاطها شرق المدينة رغم الخطر الدائم الناجم عن قربها من رافعات ومواقع القوات الإسرائيلية، التي تطلق القذائف والرصاص بين الحين والآخر باتجاه المنطقة، ورغم ذلك تقول "نعيش الخوف كل دقيقة، ولكن إرادتنا أثبتت أنها أصلب من هذا الرعب، أطفالنا يستحقون فرصة للحياة، ولن نسمح أن يُسلَب منهم حقهم مرة أخرى".

وتسعى دينا أبو شعبان وطاقمها، معظمهم من النساء، إلى تطوير المدرسة لتستوعب المزيد من الطلبة، عبر تقديم خطط واضحة للجمعيات الإنسانية والجهات الداعمة، أملاً في الحصول على أدوات ومواد تساعد على استكمال العملية التعليمية، مشيرةً إلى أن الدور النسائي في إحياء التعليم كان محورياً "لولا النساء اللواتي وقفن في الصفوف الأولى، وبذلن جهداً يفوق طاقتهم، لما تمكنّا من إعادة التعليم في هذا المكان، المرأة هنا ليست معلمة فقط؛ إنها قائدة، مساندة، وملهمة".

وترى دينا أبو شعبان أن هذا الجهد النسائي مثالاً على قدرة المرأة الفلسطينية في أوقات الانهيار على بناء منظومات بديلة عند غياب المؤسسات الرسمية "هذه التجربة لم تُعد فقط التعليم، بل أظهرت أن المرأة هي أساس النهوض الاجتماعي، وعمود الحياة في وقت الحرب".

 

"ما ذنبنا أن نعيش حياة قاسية؟"

وسط هذا المشهد، يبرز صوت الأطفال، هؤلاء الذين دُمّرت مدارسهم، وفقدوا حقهم في سنوات كانت الأهم للنمو المعرفي والعاطفي، الطفلة جوري سكر، ذات الثماني سنوات، تقف قرب أحد الخيم المتهالكة، وتقول بنبرة تحمل مزيجاً من الشكوى والرجاء "من حقنا أن نتعلم مثل كل الأطفال في العالم، نريد أن يكون لدينا صفوف حقيقية ومقاعد نجلس عليها، لا أن نكتب على الأرض أو في الخيام، ما ذنبنا أن نعيش هذه الحياة القاسية ونُحرم من الأمان والدراسة واللعب؟".

وعلى مقربة من جوري، تضيف الطفلة ريناد راضي، التي فقدت منزلها خلال القصف الأخير "أنا أحب المدرسة كثيراً، وأحلم أن أصبح معلمة، تعبنا من النزوح والعيش بين الخوف والقذائف، نريد مكان نتعلم فيه بدون صوت الطائرات، نريد أن نشعر بأننا أطفال".

هذه الأصوات الصغيرة، التي تحمل وعياً مبكراً يفوق أعمارها، تتحول إلى مرآة واضحة لحجم الفجوة التعليمية المتراكمة على مدار عامين، فالأطفال الذين التحقوا بالمدرسة الكاملية اليوم لا يبحثون فقط عن تعليم، بل عن حقهم في الطمأنينة، وحقهم في المساحة التي تحمي أحلامهم من الانهيار.

 

الانقطاع يترك أثر في التطور المعرفي

ويشير مختصون تربويون يعملون ضمن المبادرة إلى أن انقطاع التعليم لفترات طويلة يترك آثاراً عميقة على التطور المعرفي والانفعالي للأطفال، ويصعّب لاحقاً دمجهم في مراحل دراسية متقدمة، خاصة في ظل غياب وسائل التعليم التفاعلي، والمصادر، والأنشطة التي تُعد أساساً لتكوين شخصية الطفل وثقته بنفسه. وفي مثل هذه الظروف، تصبح مبادرات النساء في القطاع التعليمي محوراً للإنقاذ المجتمعي، لا مجرد جهود فردية.

في المدرسة الكاملية، تعمل النساء كحلقة وصل بين الحاضر والمستقبل، إذ يقمن بمهام تعليمية وتنظيمية وإدارية في الوقت نفسه، فهن من يعيدن ترميم الفصول، ويجهزن الساحات، ويعدن ترتيب الحجارة القديمة لتصبح ممرات آمنة، ويعوضن النقص في الكادر التعليمي عبر التدريب الذاتي، ويخترعن طرقاً تعليمية بديلة في ظل غياب الوسائل التقليدية. ومع كل هذا، يواصلن أيضاً دورهن الأسري داخل ظروف النزوح.

إن حرمان أطفال غزة من التعليم للعام الثالث على التوالي يشكّل انتهاكاً صارخاً للمعايير الدولية التي تكفل حق الطفل في التعلم دون انقطاع، وهو حق لا يجوز المساس به تحت أي ظرف، فاستمرار إغلاق المدارس، وتدمير المرافق التعليمية، وتحويل بعضها إلى مراكز إيواء أو ثكنات، خلق فجوة معرفية هائلة لا يمكن تعويضها بسهولة، وترك آلاف الأطفال خارج المسار الطبيعي لنموهم النفسي والعقلي والاجتماعي.

لم يعد الأمر مجرد توقف مؤقت في العملية التعليمية بل تحوّل إلى سياسة فعلية تقوّض قدرة الأطفال على بناء مستقبلهم، وتهدد جيلاً كاملاً بفقدان المهارات الأساسية التي تُعد حجر الأساس لأي مجتمع قادر على النهوض، وفي ظل غياب الحماية الدولية الفاعلة، يدفع الأطفال ثمناً باهظاً يتمثل في ضياع أعوام من حياتهم الدراسية، وتآكل فرصهم في تحقيق أحلامهم، وهو ما يستدعي موقفاً عاجلاً لإعادة الاعتبار لحق التعليم باعتباره ضرورة إنسانية لا يمكن فصلها عن حق الطفل في الحياة الكريمة والأمان.