صمود بلا حدود... كيف تعيد المرأة الفلسطينية بناء أحلامها من جديد؟

تواجه النساء في قطاع غزة واقع الحرب المستمرة منذ قرابة عام، بنهوض متجدد من خلال إعادة بناء حياتهن وسط الدمار، ومواصلة الصمود بإرادة صلبة رغم الفقد والمعاناة.

نغم كراجة

غزة ـ في خضم الدمار الذي تخلّفه الحروب، برزت الفلسطينيات كرموزٍ للصمود الذي لا ينكسر، رغم الألم، وتواصلن النهوض من تحت الأنقاض، وتصنعن حياةً جديدة في كل مرة تدمر فيها الغارات بيوتهن، خاصةً اللواتي تعانين من النزوح، وتفقدن أحباءهن، وتقفن بشجاعة في مواجهة الظروف وتجدن في أصعبها سبلاً لإعادة بناء حياتهن.

بركة بهار امرأة شابة في الثلاثينات من عمرها، لم تكن مجرد مصممة أزياء عادية، بل رمزاً لقوة الإرادة والطموح منذ بداياتها في عام 2010، وهي تجوب عالم الأزياء فالقطعة التي تصممها لا يمكن أن يوجد شبيهاً لها، تخرج من إطار الفقر والظروف القاسية، لتحقق حلمها وبفضل براعتها وموهبتها الفطرية، استطاعت لفت الأنظار وانتقلت بين عدة مشاريع أبرزها العمل ضمن فريق نسائي بمعهد "الأمل" للأيتام، حيث تصمم وتخيط الملابس للأطفال، على مر الأعوام ونجحت في ادخار مبلغ من المال لتبدأ مشروعها الخاص الذي كان يمثل حلمها الكبير الذي بدأته من الصفر بعد سنوات من العمل المتواصل والكفاح.

كانت رؤيتها واضحة ومصممة على أن تحقق النجاح الذي تستحقه، رغم الصعوبات التي تحيط بها في قطاع غزة حيث الحياة لا تعرف الهدوء، وتقول "في كل خطوة خطوتها، كنت أضيف لبنة جديدة في بناء مشروعي الذي أسميته "حياة من خيوط" ليدل على حياتي مع الخيوط التي أحيكها بحب وأمل".

ومع كل قطبة خياطة، كانت تطرز قصة نضالها المستمر في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها النساء في غزة، وكان مشروعها في ورشة صغيرة داخل منزلها مزود بماكينات خياطة حديثة، ومجموعة من الأقمشة التي جلبتها بعناء شديد، وكأنها تجمع قطعاً من أحلامها المبعثرة لتنسج منها مستقبلها المشرق، ومع مرور الوقت، أصبح هذا المشروع مصدر دخل لها ولعائلتها، ووسيلة لإعالة أطفالها "منذ أن افتتحت مشروعي شعرت بالاستقلالية وأصبح لي كيان خاص".

 

الحرب تقلب الموازين وتدمر الأحلام

ولكن كما هو الحال دائماً في غزة، سرعان ما قلبت الحرب حياة بركة بهار رأساً على عقب، ففي السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لم تعد الأحلام مجرد هدف بعيد، بل أصبحت شيئاً لا يمكن الوصول إليه، القصف المكثف الذي طال المنطقة التي تعيش فيها دمر كل شيء بنته بيديها، ولم يبقَ من ورشتها سوى ركام الحجارة، وأصبحت غالبية ماكينات الخياطة الحديثة التي كانت تعتمد عليها مجرد قطع معدنية تحت الأنقاض "شعرت في تلك اللحظة بأن سنوات التعب من العمل الشاق قد تبخرت في لحظة.

وأشارت إلى أنها كانت في تلك الفترة حاملًا في شهرها السابع، مما زاد من وطأة الألم الذي شعرت به، ونزحت مع أسرتها إلى مركز إيواء بعدما دمر القصف منزلهم، وانتقلت من ملجأ إلى آخر بحثاً عن مكان آمن، لكنها لم تجد سوى الذل والويلات، لجأت إلى إحدى المدارس التي امتلأت بالنازحين، حيث لم يكن هناك مكان يكفيها وأطفالها فاضطرت إلى إقامة خيمة بسيطة في زاوية المدرسة، في ظل البرد القارس والخوف المتواصل من القصف المستمر "كان كل يوم يمر علينا بمثابة كابوس جديد، وكل ليلة تحمل معها المزيد من الرعب والقلق".

 

الإصابة والنجاة بأعجوبة

وفي منتصف كانون الثاني/يناير، اشتد القصف على المنطقة التي نزحت إليها، وازدادت الأوضاع سوءاً وفي إحدى تلك الليالي الحالكة، وبينما كانت تحاول حماية أطفالها من الخطر المحدق، أصيبت برصاصة حية من طائرة بدون طيار اخترقت كتفها، ولكن لحسن حظها كانت قد وضعت كوع يدها على رأسها، مما أنقذ حياتها، لو لم تقم بذلك، لكانت الرصاصة قد استقرت في رأسها وأنهت حياتها في لحظة، وعلى الرغم من الإصابة البالغة، لم تجد أي رعاية طبية مناسبة، حيث كانت معظم المستشفيات في القطاع خارج الخدمة نتيجة للحصار والقصف المتواصل وتلقت علاجاً بدائياً بإمكانيات بسيطة، لكن الألم ظل يرافقها لأسابيع؛ بحسب ما روته بركة بهار.

 

محاولة النهوض من جديد

وأوضحت أنه "بعد رحلة طويلة من النزوح والتشرد، بدأت أفكر في إعادة بناء حياتي من جديد رغم كل ما فقدته، لم تكن فكرة الاستسلام واردة في قاموسي، وقررت أن أبدأ مشروعاً صغيراً لترميم الملابس للنازحين، خاصةً أن الأسواق باتت تفتقر إلى الملابس الجديدة، وإن وجدت تكون أسعارها باهظة نظراً لإغلاق المعابر، وجدت الدعم من خالتي التي شجعتني على البدء مرة أخرى، وأيدت فكرتي وأصبحت بمثابة السند الأول في محنتي".

وبدأت بركة بهار البحث تحت الأنقاض على أمل العثور على أي من معداتها القديمة، وبعد بحث طويل، وجدت ثلاث ماكينات خياطة من أصل سبعة، لكنها كانت بحاجة إلى صيانة وإصلاح بعد أن تضررت بفعل القصف، وبالإصرار الذي يميزها، قامت بتجهيز زاوية صغيرة في غرفة داخل مركز الإيواء التي تعيش فيها مع أطفالها، وبدأ النازحون يترددون لترميم ملابسهم الممزقة، وشيئاً فشيئاً شعرت بفرحة العودة إلى الحياة المهنية، ولكن هذه الفرحة لم تدم طويلاً.

 

مأساة جديدة ودمار آخر

وفي حين كانت تحاول النهوض مجدداً، اجتاحت القوات الإسرائيلية حي التفاح، المنطقة التي كانت تقيم فيها، وعاشت ساعات من الرعب المطلق، واضطرت مجدداً للهرب مع أطفالها بحثاً عن مأوى، حينها وضعت طفلتها الرضيعة قبل يوم واحد، ونزحت تاركة وراءها كل شيء، بما في ذلك ماكينات الخياطة التي أصلحتها بصعوبة، كان هروبها في تلك الليلة بمثابة معجزة، حيث نجت بأعجوبة من موت محقق.

وبينت أنه بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، عادت لتفقد أغراضها لكنها وجدت أن ألواح الطاقة الشمسية التي كانت تعتمد عليها لتشغيل معداتها تدمرت بالكامل بفعل القصف، تلك الألواح كانت تمثل بالنسبة لها طوق النجاة في ظل انقطاع الكهرباء المتواصل في غزة، غمرها الحزن واليأس من جديد، لكنها لم تكن المرأة التي تسمح لليأس بالسيطرة عليها، على الرغم من كل ما مرت به، قررت بركة بهار أن تنهض من جديد وتستمر في الكفاح.

 

التصميم على الاستمرار

قررت بركة بهار أن تعمل بيديها، حتى لو تطلب الأمر جهداً مضاعفاً، وبدأت بإصلاح الملابس يدوياً، حيث تستغرق القطعة الواحدة أكثر من ساعة لإنجازها، بعدما كانت تنجزها في دقيقة باستخدام ماكيناتها الحديثة، هذه المعاناة اليومية لم تحبط عزيمتها، بل زادت من إصرارها على الاستمرار والابتكار، وتقول "ابتكرت فكرة للاستغناء عن ألواح الطاقة الشمسية المدمرة، حيث تذكرت ماكينة الخياطة القديمة التي ورثتها عن والدتي، تلك الآلة التي لا تحتاج إلى كهرباء، لكنها كانت تحتاج إلى قاعدة جديدة للعمل، وبرغم أنني لم أكن أملك رأس المال اللازم، إلا أنني لم أتوقف عن السعي"

بركة بهار، كغيرها من النساء الفلسطينيات، تمثل رمزاً للصمود في وجه أصعب الظروف، وهي واحدة من آلاف اللواتي تحملن على عاتقهن مسؤولية الأسرة والمجتمع، وتدفعن ثمن الحروب بأجسادهن وأرواحهن وأكدت "إن المرأة الفلسطينية تصنع المستحيل في ظروف تفتقر لأدنى مقومات الحياة، وتعانين من أعباء لا يمكن لأحد آخر أن يتحملها بين النزوح المستمر، وفقدان الأبناء والأزواج، والعيش في ظل الحرب المستمرة التي استنزفت طاقتنا".

وبالرغم من كل ما مرت به، تؤمن بركة بهار، أن الفلسطينيات هنّ القوة التي لا تنكسر، وكل امرأة تناضل بطريقتها الخاصة، سواءً كانت تقاتل من أجل البقاء على قيد الحياة، أو تحاول توفير لقمة العيش لأطفالها، أو تستمر في صنع مستقبل جديد وسط الدمار، مؤكدة أن العالم يرى في المرأة الفلسطينية صور النضال التي لا تنتهي، حتى وإن كانت ملامحهن قد أخذ الحزن منها نصفها، إلا أن النصف الآخر يعكس شجاعة وقوة لا يمكن تجاهلها.