"شاحنات الموت"... تفتك بحياة العاملات الكادحات في الحقول

سجل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منذ عام 2015 إلى اليوم ما يفوق 70 حادث، مسفرة عن وفاة أكثر من 55 امرأة وإصابة أكثر من850.

إخلاص الحمروني 
تونس ـ
العاملات في القطاع الفلاحي لا تستطعن افتكاك حقوقهن وأخذها بمعزل عن حقوق النساء عامة في مجتمع لايزال يستبطن داخله أفكاراً تمييزية تكرس العنف ضد النساء وتمارسه ضدها في كل الفضاءات. 
مشاهد العاملة الفلاحية وهي تصعد الشاحنات المخصصة لنقل البضائع التي تجرد منها إنسانيتها، هي في الحقيقة مشاهد تعري نفاق طبقة سياسية جعلت من حقوق النساء والمساواة ومناهضة العنف ضدّهن مجرد قاطرة تمر عليها إلى كراسي الحكم. 
ورغم تتالي الحوادث وتصاعد الأرقام في الفترة الأخيرة إلا أن الحكومة تأبى أن تواصل صمتها وتجاهلها في التعاطي مع هذا الملف بالتطبيع مع حوادث الموت. 
معاناة العاملات في المجال الفلاحي تنطلق منذ الصباح الباكر حيث تقول مبروكة البريكي "استيقظ منذ الساعة الرابعة فجراً وانهمك في إعداد وجبة الفطور ووجبة الغداء التي سأحملها معي إلى مكان العمل وأقوم أيضاً بترتيب المنزل لأنني أعود من العمل متأخرة لذلك أحرص أن يكون المنزل مرتباً والأكل متوفراً لأسرتي وأطفالي".
وأضافت "هذا الصباح هطل المطر لذلك لم نذهب إلى العمل لأن الجو غير ملائم لجني الزيتون، فأنا أصعد دائماً للشاحنة مع مجموعة من النسوة ونتوجه إلى العمل في ظل ظروف صعبة مليئة بالخوف إلى درجة أننا نطلب في كل لحظة من سائق الشاحنة أن يتوخى الحذر". 
وبحرقة تقول "أوضاعنا الاجتماعية الصعبة تجبرنا على العمل، لذلك فنحن نقبل التنقل من محافظة إلى أخرى في شاحنة أو عربة غير محمية تلقب "بشاحنة الموت" لكثرة عدد الحوادث التي تشهدها مثل هذه العربات لتحصيل أجرة اليوم، كما أننا نتقبل العمل بأجرة زهيدة". مشيرة إلى أنهم يذهبون إلى محافظات بعيدة كالهوارية وسيدي بوزيد، ونلاحق المواسم أينما حلت، نعمل في الصيف في موسم جني الفلفل والأن موسم جني الزيتون وفي قادم الأيام موسم جني الطماطم، في سبيل تحقيق اكتفائنا الذاتي". 

 


وضع صعب
منجية الشايب امرأة مسنة ومنهكة جسدياً بسبب المرض، بالرغم من ذلك لا تزال مصرة على العمل رغم الظروف القاسية التي تواجهها أثناء التوجه إلى العمل بسبب شاحنات النقل المكتظة بالنساء. 
وقالت "وضعنا صعب ومزري جداً لأننا نذهب إلى القرى على متن الشاحنة التي عادة ما تكون مكتظة بالعاملات حيث تحمل أكثر من طاقة استيعابها ما بين 20 إلى 25 عاملة وأحياناً يصل العدد إلى 30 امرأة"، موضحة أنهم يتحملون الصقيع والبرد وخاصة في فترة الصباح عند الذهاب إلى العمل فالشاحنات غير مغطاة.
وعن تجربتها بينت أنها "بسبب هذه الشاحنات كدت يوماً ان أسقط على وجهي، وفي كثير من الأوقات ينهال علينا سائق الشاحنة بالشتم والسب ويتهجم علينا بشتى الألفاظ المهينة لكرامتنا"، مشيرةً إلى موت العديد من النساء في حوادث مماثلة. 

 


رقم مفزع لحوادث الموت 
تعمل العديد من مكونات المجتمع المدني الناشطة في مجال حقوق المرأة والفئات المستضعفة على دعم حقوق النساء العاملات في القطاع الفلاحي ومن ضمنها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وحول ذلك قالت المنسقة الجهوية للمنتدى في محافظة القيروان المكلفة بملف العاملات الفلاحيّات حياة العطار "النقل الجماعي العشوائي هو من أبرز المشكلات التي تواجه العاملات في القطاع الفلاحي وهي مشكلة قديم ولدت من رحم العديد من المشاكل الأخرى التي تعاني منها الكادحات في القطاع الفلاحي على غرار تدني أجورهن مقارنة بالرجال وعدم تمتعهن بالتغطية الاجتماعية وطول ساعات العمل". 
ومع وجود كل هذه المشاكل أوضحت أن السلطات المعنية لا تعترف بهذا النوع من العمالة النسائية ولا تكترث لأوضاعهن الاجتماعية الاقتصادية الصعبة، ومن نتائج عدم الاعتراف هو النقل العشوائي وغير الآمن الذي يتسبب إلى اليوم بخسائر بشرية هامة في صفوف العاملات. 
وأشارت إلى أن العديد من الفلاحات في محافظة القيروان وغيرها من المحافظات تجبرن على العمل من أجل لقمة العيش والتنقل إلى مواقع العمل في القرى الفلاحية عبر شاحنات غير آمنة مخصصة لنقل البضائع مما يعرض حياتهن للخطر، مبينة أن المنتدى سجل منذ عام 2015 إلى اليوم ما يفوق 70 حادث، والتي أسفرت عن وفاة أكثر من 55 امرأة وإصابة أكثر من 850. 
وأكدت حياة العطار أن عملية نقل النساء في الشاحنات غير الآمنة مستمرة رغم وجود القانون عدد 51 لعام 2019 المتعلق بإحداث صنف نقل العملة والعاملات في القطاع الفلاحي، الذي لم يتم تفعيله على أكمل وجه نتيجة عدم رصد الآليات الضرورية وعدم ردع الوسطاء الذين يواصلون نقل العاملات بطرق عشوائية ومن محافظة إلى أخرى دون الالتزام بالضوابط القانونية، فهناك انعدام للإرادة السياسية في تطبيق القانون وغياب استراتيجية واضحة تحدد المسؤوليات وتركز على الآليات اللازمة لتطبيقه وتسهّل عملية النفاذ إليه من قبل الفئات المعنية به. 
وفي دراسة أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تحت عنوان "شاحنات اللاعودة: التنقل على إيقاع الموت وصمت الدولة المخزي"، تقول حياة العطار في تشخيص لواقع العاملة في القطاع الفلاحي "عاملات القطاع الزراعي تعملن بنفس النسق وبلا هوادة وتركبن الشاحنة في اتجاه الحقول ولا تخشى الواحدة منهن الأوبئة غير وباء الفقر والبطالة فالجوع والحاجة وقلة ذات اليد أصعب من كل شيء".
وأوضحت أن الحوادث تتالى والأرقام تتصاعد مقابل صمت الحكومة وتجاهلها، وكأنها أَلِفَت المشهد وتعودت عليه، فأصبحت تتعاطى مع المآسي بالتطبيع مع الموت والتعايش مع الكوارث، مشيرة إلى أن استمرار هذه الماسي يسبب في تدهور البنية التحتية في هذه الجهات إلى جانب الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع نسب الفقر والبطالة وشعور الغبن والحرمان المستمر من الموارد والقدرات وانعدام فرص التمتع بمستوى معيشي لائق وبأبسط أساسيات الحياة وحالة اللاأمان واللاإستقرار التي تدفع نساء هذه الجهات إلى العمل في الحقول وتحمل المخاطر في انتظار حلول جادة تغير من واقعهن وتحفظ كرامتهن.
والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هو منظمة مستقلة غير حكومية تأسست عام 2011 بهدف الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على المستوى القومي والدولي، وهو يعمل أساساً على قانون العمل، وحقوق المرأة، والحقوق البيئية وحقوق المهاجرين، ولدى المنتدى مكتب رئيسي بالعاصمة تونس وفروع تعمل مع الشركاء القاعديين والمحليين في مدن أخرى بالبلاد.