نساء غزة في مواجهة الشتاء... خيام تغرق وأعباء تتضاعف

تعيش النساء النازحات في قطاع غزة فصلاً جديداً من المعاناة مع اشتداد المنخفضات الجوية، إذ تتحوّل الخيام المهترئة إلى مصائد للأمطار والبرد في ظل غياب أي مأوى يحفظ كرامتهن ويحمي أطفالهن.

نغم كراجة

غزة ـ في ليلةٍ لم تكن تشبه ما سبقها من ليالي النزوح، وجدت الثلاثينية فاتن الشوا نفسها محاصرةً بالماء والبرد والعجز، بعدما غرقت خيمتها المهترئة وتكسّرت عمدانها الهشة تحت وطأة منخفضٍ جوي عنيف ضرب قطاع غزة، ليعيد إلى الواجهة واحدةً من أقسى صور المعاناة الإنسانية التي يعيشها مئات آلاف النازحين، معظمهم من النساء والأطفال، في خيام لا تصلح للسكن أو الاحتماء.

تقول فاتن الشوا وهي أم لأربع طفلات، إن هذه الأيام هي الأصعب في حياتها منذ نزوحها الأول من منزلها شرق مدينة غزة، مؤكدةً أنها لم تتخيل يوماً أن تنقلب حياتها من الاستقرار والرفاهية إلى هذا الحد من الهشاشة والحرمان.

وتروي تفاصيل تلك الليلة "لم أكن أظن أن المطر يمكن أن يتحول إلى عدو بهذا الشكل، استيقظت في منتصف الليل لأجد نفسي نائمة في بركة مياه، والخيمة التي بالكاد تحمينا قد انهارت، وأخشابها ملقاة على الأرض، كان البرد قاسياً، والماء يتسلل إلى كل شيء، ولم يكن أمامي سوى أن أبدأ بجمع ما تبقى من أغراضنا وفراشنا قبل أن يغرق بالكامل".

وتتابع بصوتٍ يثقل عليه القهر "المشهد الأقسى لم يكن المياه ولا الرياح بل محاولة إيقاظ أطفالي المفزوعين، وحملهم في هذا الظلام والمطر إلى خيمة أحد الجيران، بعدما أصبح النوم داخل خيمتنا مستحيلاً".


         


تحولت الخيام إلى مصائد للمياه

تحاول فاتن الشوا وهي الزوجة والأم والمعيلة في آنٍ واحد، أن تستوعب حجم المسؤولية التي ألقيت على عاتقها قسراً، فزوجها الذي أُصيب إصابة بالغة أثناء ذهابه لتفقد منزلهم المستهدف، أصبح عاجزاً جزئياً عن الحركة، ما جعلها وحدها في مواجهة تفاصيل الحياة القاسية للنزوح "كنت أحمل الفراش المبلول، والأغطية الثقيلة، وأخشاب الخيمة بيديّ وحدي، في منتصف الليل دون أن يساعدني أحد، في تلك اللحظات شعرت أنني أُسحق تحت ثقل لا يطاق، ليس فقط ثقل الأشياء بل ثقل الظلم والعجز"، ثم تتساءل بمرارة "لماذا كل هذا الذل؟ إلى متى هذا الإجرام؟ ألا يكفي الحصار والنزوح والجوع؟".

ولا تقتصر معاناة فاتن الشوا على فقدان المأوى الآمن بل تمتد إلى فقدان أبسط مقومات الخصوصية الإنسانية، فالعيش في خيمة مهترئة يعني انكشافاً دائماً، وانعداماً للشعور بالأمان، خاصةً للنساء.

وأوضحت أن "الخصوصية في الخيام معدومة، لا جدران تحمينا، ولا أبواب تُغلق، ولا مساحة نشعر فيها أننا وحدنا، المرأة هنا تعيش تحت ضغط دائم، بين الخوف على أطفالها، ومحاولة الحفاظ على كرامتها في ظروف لا ترحم".

وبينت أن المنخفض الجوي زاد من معاناة النساء في المخيمات، حيث تحولت الخيام إلى مصائد للمياه، وتضاعف البرد، دون وجود أي بدائل حقيقية.

مع اشتداد الأمطار، غرقت مئات الخيام في مختلف مناطق قطاع غزة، في مشهدٍ يتكرر مع كل منخفض جوي، دون حلول جذرية تلوح في الأفق، وتشير التقديرات إلى أن نحو 70% من سكان القطاع يعيشون اليوم في خيام أو مراكز إيواء مؤقتة، بعد تدمير منازلهم بشكل واسع، ما يجعلهم عرضة مباشرة لتقلبات الطقس القاسية، خاصة في فصل الشتاء. وتقول "أمنيتي اليوم بسيطة جداً، خيمة قوية تتحمل الرياح والمطر، وتحمينا من هذا البرد القارس، لا أريد أكثر من ذلك، فقط أن ينام أطفالي دون أن يستيقظوا غارقين بالماء".


         


"حتى أحلامنا الصغيرة لم تسلم من الحرب"

إلى جانب الأم، تقف الطفلة ندى الشوا، ذات الأربعة عشر عاماً، شاهدةً على قسوة الواقع الذي سرق منها طفولتها وأحلامها، تقول "ما ذنبنا أن نعيش هكذا؟ حتى كلمة حياة كبيرة جداً على ما نعيشه".

ترتجف ندى الشوا من البرد منذ بدء فصل الشتاء، واضطرت للنوم على فراش مبلول بالماء، لعدم وجود خيار آخر "الدخل المادي لا يسمح بشراء خيمة أفضل، ولا حتى أغطية تحمينا من البرد".

وتحكي عن خسارتها لأحلامها الصغيرة، فتقول "كنت أحب الدراسة، وأقضي وقتي في تعلم لغات جديدة، وأهتم كثيراً بمدرستي، اليوم لا أستطيع شراء دفتر، ولا دفع رسوم التعليم، أنظر إلى زميلاتي وأتذكر تفوقي في السنوات السابقة، وأتحسر على حلمي بأن أصبح طبيبة جراحة"، وتضيف بأسى "الحرب لم تترك لنا شيئاً حتى أحلامنا الصغيرة لم تسلم منها".

وفي ليلة غرق الخيمة، حاولت ندى الشوا أن تكون سنداً لوالدتها، رغم صغر سنها، تقول "عندما طارت الخيمة من شدة الرياح، حاولت مساعدة والدتي في نقل الأغراض، لأنني الكبرى بين إخوتي، وكان عليّ أن أبقى معهم وأرعاهم، بينما كانت أمي تزيل المياه المتراكمة وتنقل ما تبقى من أغراضنا إلى مكان آخر بعد أن ابتلت بالكامل".


         


مشهدٍ يعكس عمق الأزمة الإنسانية

من منظور حقوقي، فإن ما تعيشه عائلة فاتن الشوا، وآلاف العائلات النازحة في قطاع غزة، يشكّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، وعلى رأسها الحق في السكن اللائق، والحق في الحماية من الظروف المناخية القاسية، والحق في الكرامة الإنسانية، فالقانون الدولي الإنساني يفرض على قوة الاحتلال مسؤولية حماية السكان المدنيين، وضمان توفير المأوى الآمن لهم، خاصة في حالات النزاع المسلح.

غير أن الواقع في غزة يكشف فشلاً ممنهجاً في توفير الحد الأدنى من هذه الحقوق، حيث تُترك العائلات لمواجهة الشتاء في خيام مهترئة، دون بنية تحتية، أو حلول مستدامة، أو استجابة إنسانية تتناسب مع حجم الكارثة.

ومع استمرار الأمطار الهائلة التي أغرقت خيام القطاع، وغياب أي بدائل حقيقية، تتفاقم معاناة النساء والأطفال، في مشهدٍ يعكس عمق الأزمة الإنسانية، ويطرح تساؤلات ملحّة حول مسؤولية المجتمع الدولي، وجدوى الاكتفاء بالتحذير والإدانة، في وقتٍ يحتاج فيه النازحون إلى حماية فعلية، ومأوى يليق بإنسانيتهم.