من الوجود السوفييتي إلى طالبان... عقود من القمع في رحلة امرأة
عاشت سارا شريفي العنف والحرب منذ نعومة أظافرها؛ فمن الوجود السوفييتي إلى حكم طالبان، كانت شاهدة على فصول من الألم والدمار. لكنها لم تكتفِ بالنجاة، بل اختارت أن تحوّل معاناتها إلى قوة.
بهاران لهيب
كابول ـ عانت الأفغانيات لعقود من القمع والعنف، بدأت بالوجود السوفيتي مروراً بالحروب الأهلية، وصولاً إلى حكم طالبان الذي قيّد حرياتهن بشكل صارم. رغم ذلك، واصلت كثيرات منهن النضال من أجل التعليم والحقوق الأساسية في ظل ظروف قاسية وغير إنسانية.
تروي سارا شريفي "اسم مستعار" قصتها التي لا تعد مجرد سرد لحياة قاسية، بل شهادة حيّة على الصمود والأمل لنساء أفغانستان. نشأت في ظروف غير إنسانية بعد الوجود السوفييتي في بلادها، واضطرت للهجرة، لكنها لم تتخلَّ عن حلمها. بعزيمة لا تعرف الانكسار، تواصل نضالها من أجل حرية النساء في وطنها، لتكون صوتاً لمن لا صوت لهن، ونموذجاً للمرأة التي تصنع التغيير رغم كل العوائق.
في مستهل قصتها، قالت "أسكن في أحد أكثر أحياء العاصمة حداثة. منذ ولادتي، كانت بلادي ترزح تحت وطأة الوجود السوفييتي، حيث واجه والدي، المعارض الشرس للحكومة الموالية له، الاعتقال مرتين في سجون حزبي خلق وبرجم، اللذان يدّعيان الانتماء للفكر الشيوعي، بينما كانت ممارساتهما أقرب إلى الفاشية، إذ باعا الوطن والشعب من أجل السلطة والنفوذ".
وأضافت "كان والدي يروي أحياناً مشاهد من التعذيب الذي تعرّض له في سجون حزبي خلق وبرجم خلال تلك الحقبة، روايات تقشعر لها الأبدان، من الضرب الوحشي، والشتائم المهينة التي تمس الأم والأخت، إلى نزع الملابس، وسكب الزيت المغلي، واقتلاع الأظافر، والصعق بالكهرباء، وإجبار المعتقلين على الوقوف لساعات طويلة، بل وحتى دفنهم أحياء. كانت القوات السوفيتية وحلفاؤها المحليون يهاجمون القرى، وإذا واجهوا مقاومة، ردّوا بالقصف العنيف وارتكاب فظائع لا تُحصى، في خضم هذا الجحيم، استغلت الولايات المتحدة وباكستان وإيران والسعودية الوضع، فأنشأوا الأحزاب السبعة في بيشاور، والأحزاب الثمانية ذات التوجهات المتشددة، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع".
"الحياة كانت مزيجة بالخوف والصموت"
وحول آثار الوجود السوفييتي، الذي دام عشر سنوات، وانهيار الحكومة العميلة أفادت سارا شريفي "لا تزال حاضرة في ذهني. كنت حينها طفلة أعيش مع أسرتي في منطقة خاضعة لسيطرة الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار، المعروف بلقب "جزار كابول"، بينما كانت قوات أحمد شاه مسعود متمركزة على مقربة منا. كنا فعلياً في قلب الجبهة، حيث لم تتوقف الاشتباكات بين الطرفين ليلاً أو نهاراً".
وأكدت "كثيراً ما كانت والدتي تعجز عن إعداد الطعام لنا، إذ كنا نعيش في قبو المنزل، وكان والداي يضطران إلى إيواء الجيران أيضاً، بحثاً عن مأوى آمن من القصف المتواصل. كانت الحياة هناك مزيجاً من الخوف والصمود، حيث أصبح البقاء على قيد الحياة إنجازاً يومياً".
وتتابع "في ظل تصاعد الحرب، اضطررنا إلى مغادرة منزلنا لمدة أسبوعين بحثاً عن مكان أكثر أماناً بعيداً عن خط المواجهة. وبعد العودة، قرر والداي إرسالنا إلى مسقط رأسنا، حيث كانت الأوضاع أكثر استقراراً، لنقيم عند أقاربنا، كان الفراق مؤلماً إذ كنا متعلقين بشدة بوالدينا، فغادرنا باكين ومجبرين. وبعد أكثر من شهر، هاجرنا أنا وإخوتي إلى باكستان لمواصلة التعليم، بعيداً عن دفء الأسرة، لنبدأ حياة جديدة لم نرغب بها. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت الهجرة بالنسبة لي مرادفاً للغربة والحرمان".
ولفتت إلى أن "والدتي لم تكن تُظهر حزنها أمامنا، لكنها كانت تبكي ليلاً ونهاراً كما أخبرتني صديقاتها لاحقاً، حتى أصابها المرض من شدة الألم. ورغم ذلك، لم تتوقف عن دعمنا، وسعت بكل قوتها لتربيتنا كنساء واعيات وناشطات. كانت بطلة في نظري، امرأة لا تعرف الخوف، تتحدث إليّ باستمرار، تشجعني على الدراسة، وتزرع فيّ الإصرار. لولا دعمها، لكنت اليوم امرأة بلا تعليم".
وأضافت "بعد سنوات من الفراق عدت إلى أفغانستان، وذلك قبيل سقوط أول حكومة لطالبان. كانت والدتي مريضة، لكنها لم تشتكِ، وكنت أعلم أن ألمها الحقيقي كان من فراق أبنائها. في منطقتنا، كنت المرأة الوحيدة المتعلّمة، بينما بقيت الفتيات في سني بلا تعليم. وبفضل مكانة والدتي واحترام الناس لها، أنشأنا معاً دورة مجانية لتعليم الفتيات".
وتابعت حدثيها "عندما تخرّجت من المدرسة في باكستان، لم أعد أحتمل البُعد عن والدتي، فعدت نهائياً إلى أفغانستان. كانت تلك العودة خلال حكم طالبان الأول، حين تحولت كابول إلى مدينة منكوبة. كنت أضطر للانتظار ساعات في الحافلة حتى تمتلئ وتتحرك، وأُجبرت على ارتداء البرقع. كان عناصر طالبان يحملون كابلات يجلدون بها النساء اللواتي يعتبرونهن "غير محتشمات". لم أكن أحب أيام الجمعة، ففي كل جمعة كانوا يقطّعون أطراف الناس في ملعب كابول بتهمة السرقة، ويعلّقون الجثث أو الأعضاء في الساحات العامة ليكونوا عبرة للآخرين".
"بات القتل والموت جزءاً من الواقع اليومي الذي نعيشه"
ووصفت سارا شريفي أحد أيام الجمعة بـ "المروّع"، وقالت "أُعدمت زرمينة، المرأة التي وثّقت منظمة "راوا" لحظة قتلها، في مشهدٍ ترك أثراً عميقاً في ذاكرة الأفغان. كانت البلاد آنذاك غارقة في العنف والخراب، حيث لم يكن القتل وبتر الأطراف مشاهد استثنائية، بل جزءاً من واقع يومي. تحولت أفغانستان إلى أرضٍ شبه خالية من السكان، وغياب الأمن جعل من زيارة الصديقات الترفيه الوحيد للنساء. لم تكن هناك أي خدمات حقيقية، والتعليم اقتصر على الذكور، وافتقر إلى المواد العلمية".
وأكدت "لا تزال في ذاكرتي مجازر باميان، وتدمير تماثيلها، وحرق الأراضي والمنازل، والمذبحة التي ارتُكبت بحق الهزارة في مزار شريف. كما أذكر بوضوح أولى ضربات الناتو والولايات المتحدة على كابول في السابع من تشرين الأول 2001، حين استُهدفت قاعدة عسكرية قرب منزلنا في تمام الساعة السابعة مساءً".
وعن حال النساء مع سقوط حكومة طالبان أفادت "تنفّسن الصعداء، خلعن البرقع، وعُدن إلى المدارس والجامعات، وانخرطن في مؤسسات الدفاع عن حقوق المرأة. عايشت هذا التحول المفاجئ من القمع إلى ديمقراطية ظاهرية، وبدأت دراستي الجامعية في كابول، دون حضور والدتي، لكن بذكراها التي لم تفارقني".
وشددت على أنه على مدار عشرين عاماً، ورغم الاحتلال الأجنبي وفساد الحكومات، واصلت النساء الأفغانيات نضالهن، وحققن وعياً سياسياً متقدماً. وكان لـ "حزب التضامن الأفغاني" ومنظمة "راوا" دور محوري وتاريخي في هذا المسار "أتذكر جيداً قبل أربع سنوات، حين بدأت طالبان تستعيد نفوذها تدريجياً، وكأن السلطة قُدّمت لهم على طبق من ذهب. ومنذ عام 2007، كانت هناك حملات تروّج لقوتهم المتنامية، حتى بات صعودهم أمراً واقعاً".
تستمد القوة من صمود ومقاومة النساء
وختمت سارا شريفي حديثها بالقول "أنا اليوم امرأة متعلّمة، أعمل عن بُعد عبر الإنترنت، لكن ذلك لا يعني أنني بمنأى عن الألم. أحياناً يصبح التنفس نفسه عبئاً، ويغمرني الحنين إلى حدّ لا أجد فيه مأوى لمشاعري. ومع ذلك، حين أتأمل حال النساء اللواتي يُقمعن ليس فقط من المجتمع، بل من الدولة والأسرة أيضاً، أستمدّ القوة لأواصل الطريق؛ من أجل حرية النساء في بلادي، كي يتحررن من قبضة الذكورية والتطرف، ربما لا أستطيع تغيير واقعي أو واقع من يشبهنني، لكنني أؤمن أن نضالي اليوم قد يصنع غداً أفضل، ويمنح الأجيال القادمة فرصة لعيش حياة لا تشبه ماضينا المثقل بالقهر. هذا الإيمان هو ما يدفعني للاستمرار، رغم كل ما يثقل القلب".