فقدت الأبناء والمأوى... فلسطينية تروي اللحظات العصيبة للحرب
تعيش ختام ربيع الأم الفلسطينية التي فقدت أبناءها ومأواها، كابوساً متجدداً وسط حرب لا هوادة فيها، متنقلة بين القصف والنزوح لتجد نفسها اليوم بلا مأوى وشاهدةً على ألم يتجاوز الوصف.
نغم كراجة
غزة ـ وسط أزيز الطائرات ودوي القذائف والانفجارات، تتجلى المأساة الإنسانية بأبشع صورها في قطاع غزة، حيث لا يجد المدنيون ملاذاً آمناً من الموت أو النزوح، كما أن النساء والأطفال يتحملون العبء الأكبر متنقلين بين مراكز الإيواء والشوارع، وفي ظل حرب مستمرة تبقى المعاناة الحقيقية أكبر من أن تُحكى أو تُصور.
وسط جحيم الحرب المستعرة في غزة، حيث لا سماء تمنح أملاً ولا أرض تحمي من الموت، تعيش ختام ربيع التي دفعتها المأساة من بيت مدمر إلى آخر ثم إلى الشارع، لتبقى شاهدةً على فصولٍ لا نهاية لها من الألم والدمار.
"إلى أين نهرب؟"
حين صدرت أوامر الإخلاء القسري، كانت ختام ربيع تعلم يقيناً أن الرحيل لا يعني النجاة متسائلة بصوت مختنق "إلى أين نهرب؟"، فمشاهد الاكتظاظ البشري في مدينة غزة كانت كافية لتحول قرار الإخلاء إلى حكم بالإعدام، ورغم أن أصوات القصف كانت تزداد ضراوة، وقوافل النازحين تتكدس عند كل زاوية، رفضت المغادرة لأنها لا تعلم أين تذهب فالموت يواجههم بكل مكان، على حد وصفها.
لكن الحرب لا تترك خياراً حيث اقتحمت القوات الإسرائيلية الحي، وتحولت الأزقة الضيقة إلى ساحات للرعب، وقالت ختام ربيع "حاولت الهروب مع أطفالي من الباب الخلفي. كتمنا أنفاسنا، وقلبي يضرب كطبول الحرب، والدم تجمد في عروقي"، لافتةً إلى أنه قد انقبض وجهها كأنها تعيش المشهد مجدداً، أصوات الرصاص العشوائي كانت كصفير الموت، والآليات العسكرية تحتشد محاصرة كل من يحاول الإفلات.
ونزحت ختام ربيع إلى مركز إيواء في مشروع بيت لاهيا في بداية الاجتياح البري لشمال القطاع الذي دخل شهره الثالث، لكن الحرب لحقتها هناك، فالقصف العنيف لم يترك للأطفال فرصة حتى للبكاء، وخلال الهجوم البري على شمال غزة، فقدت ثلاثة من أبنائها داخل مركز الإيواء، مضيفةً "أطفالي قتلوا أمامي، لم أستطع حتى أن ألمسهم، أو أمسك أيديهم دفنوهم بسرعة، وأنا أقف كالمشلولة لا أملك إلا النظر" تتوقف عن الكلام للحظة، ثم تضيف بصوت مثقل بالحزن "أردت أن أودعهم كما يليق، أن أضع قبلة أخيرة على جبين كل واحد منهم لكنهم أخذوا مني حتى هذا الحق".
بعد هذه المجزرة، وجدت ختام ربيع نفسها مضطرة للعودة إلى منزلها المتضرر في الشمال، الذي لم يعد يصلح حتى كملاذ مؤقت، برفقة بناتها الصغيرات اللواتي لم تعدن تعرفن سوى الخوف والجوع ولكن القصف لم يتوقف، والحي تحول إلى خرابة تنبعث منها رائحة الموت والبارود.
ومع تصاعد القصف على شمال غزة واستمرار الاقتحامات البرية للأحياء، لم يكن أمامها إلا الفرار مجدداً "خرجنا كمن يهرب من النار إلى جحيم آخر. أقدامنا كانت تغوص في الركام، وعيوننا لا ترى سوى الغبار، والصراخ من كل اتجاه".
وتحاول العثور على أي قطعة قماش لتتغطين بها، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل "كل ما أطلبه الآن هو مكان آمن لبناتي حتى لو كان مجرد زاوية صغيرة، ألا يحق لنا أن نعيش؟".
اضطرابات نفسية وألم متجدد
ولا تعيش ختام ربيع المأساة فقط جسدياً، بل تطاردها نفسياً أيضاً فمنذ أن فقدت أبناءها وهي تعاني من اضطرابات نفسية حادة وحالة اكتئاب تتفاقم كل يوم، وتقول بصوت يملئه التصدع "لا أستطيع النوم. كلما أغمضت عيني أرى وجوههم. أسمع أصواتهم ينادونني، وكأنهم ما زالوا هنا".
فوصف الواقع في غزة ليس بالأمر السهل، لكنه يظل أقل وطأة مما تعيشه ختام ربيع وآلاف النساء مثلها، مشاهد التكدس في مراكز الإيواء حيث الأمهات تحملن أطفالهن وهن تصارعن الموت، والأسر التي دفنت أحباءها في حفر ضيقة لا تليق بالوداع، والمنازل تحولت إلى قبور جماعية، وعن آخر مشهد لن يفارق ذاكرتها أردفت "رأيت أمّاً تحمل طفلها الميت كأنه نائم. لم تستطع دفنه لأنها تخاف أن تموت وتتركه وحيداً".
حديثها لا يقتصر على الكلمات، كل إيماءة من يديها تخبرك قصة، كل نظرة في عينيها تحكي فصولاً من الرعب حين تتحدث عن أطفالها، تضع يدها على صدرها وكأنها تحاول منع قلبها من الانفجار، وعندما تذكر الشارع حيث تعيش الآن، تشير بيدها إلى الأرض وكأنها تريد أن تؤكد أن هذا الواقع حقيقي وليس كابوساً عابراً.
ختام ربيع هي امرأة تحمل عبء وطن، وصوت يكشف حقيقة ما يحدث في غزة، "ما تروه على الشاشات لا يصف شيئاً.. الحقيقة أسوأ بكثير.. لا يمكن للكلمات أن تحمل حجم الألم".
وسط هذا الخراب، الحرب لا تزال مستعرة، والضحايا يتزايدون كل لحظة، ختام ربيع هي واحدة من آلاف النساء الفلسطينيات اللواتي يُجبرن على دفع ثمن الحرب من حياتهن وأرواحهن وأطفالهن، قصتها ليست استثناء، بل هي صورة من صور المأساة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، حيث لا فرق بين من في الشوارع ومن تحت الأنقاض.