في ذكرى اغتيالها السادسة... هفرين خلف شعلة نضال من أجل العدالة

رغم أن رصاص الغدر أنهى حياتها، بقيت هفرين خلف حية في ضمير كل من آمن بقضيتها، ورمزاً للمرأة الحرة، وراية للنضال من أجل العدالة والسلام والتعايش بين كل المكونات، بقيت مشعل لا ينطفئ في وجه الظلم والاحتلال.

أسماء محمد

قامشلو ـ أكدت سعاد مصطفى والدة الشهيدة هفرين خلف أن اغتيال ابنتها لم يستطع كتم صوتها وإيقاف تأثير كلمتها، معتبرةً أن هفرين خلف ستظل رمزاً للمرأة الحرة والنضال من أجل العدالة والسلام.

هفرين خلف، دفعت حياتها ثمناً لمواقفها الجريئة ودعوتها الصادقة للسلام والحرية، فلم تكن مجرد سياسية شابة، بل جسدت المرأة التي آمنت بالتعايش بين المكونات كطريق وحيد لبناء وطن عادل، فاغتيلت بوحشية على أيدي مرتزقة الاحتلال التركي لتتحول دماؤها لصرخة في وجه الاحتلال ورسالة خالدة بأن صوت الحق لا يُغتال.

في الثاني عشر من تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، وخلال هجوم الاحتلال التركي على رأس العين/سري كانيه، وتل أبيض/كري سبي، ارتكب مرتزقة الاحتلال التركي جريمة مروعة بحق السياسية والأمينة العامة لحزب سوريا المستقبل هفرين خلف، على طريق الحسكة - تل تمر، وبدلاً من محاسبة القاتل والاقتصاص لضحايا جرائم هذه الفصائل بعد سقوط النظام تم تعيينه كقيادي.

لقد امتدت أيادي الغدر لتطفئ صوتاً آمن بالحوار وسعى لبناء سوريا ديمقراطية تتسع للجميع، واغتيالها لم يكن خسارة لعائلتها ورفاقها فقط، بل كان فاجعة لوطن بأكمله، إذ رحلت وهي تحمل مشروعاً سياسياً ينادي بالسلام والتعايش وحقوق المرأة.

تُعزي والدة الشهيدة هفرين خلف سعاد مصطفى في بداية حديثها جميع شهداء الحرية والنساء اللواتي ضحين بأرواحهن من أجل هذه الأرض، وقدمت لهن أسمى آيات الاحترام والتقدير، وفتحت قلبها مع اقتراب ذكرى استشهاد هفرين خلف السادسة لتروي سيرة ابنتها منذ طفولتها حتى يوم استشهادها، سيرة مفعمة بالمحبة والعطاء، والشجاعة، والإيمان الراسخ بقيم الثورة.

 

 

رفضت أن يضيء بيتها دوناً عن بقية المنازل

تحدثت عن حياة الشهيدة منذ الصغر وحتى ساعة الوداع، ومن كلماتها تتشكل صورة امرأة بسيطة المظهر، عظيمة المواقف، كان كرمها وطنياً وحنانها عاماً يشمل كل من حولها، فهفرين خلف من أوائل المشاركات في ثورة روج آفا، ومن المؤسسين للمجالس والمؤسسات. تعلمت وتدربت وجعلت من التدريب طريقاً لبناء مجتمع يمتلك أدواته ويصنع تقدمه بنفسه.

وأكدت سعاد مصطفى أن التدريبات استمرت على مر الزمن وبكافة اللغات. العربية، والسريانية والآشورية، والكردية، لتقريب الأهالي من التطور والنهضة "أمضت هفرين سنة ونصف في مجال التدريب، لكنها لم تقف عند الجانب النظري، بل توجهت مباشرة لخدمة الناس، واعتبرت كل بيت ومجتمع مسؤولية وواجباً عليها. حين حاولت الإجراءات الاستبدادية النيل من حياة الناس وقطعت الكهرباء والماء لإضعاف الإرادات، لم تنتظر هفرين أن ينهار من حولها. تولت وزارة الكهرباء وأظهرت أن القلب الكبير يصنع من الظلام نوراً. كانت ترفض أن يضيء بيتها وحده بينما الجيران في العتمة".

وتذكر الأم أنها قالت لها عند قيامها بشراء مولدة للبيت "اشتريها إذا كنت ستعطين الجيران منها كهرباء". هكذا كانت هفرين خلف تضع الإنسانية فوق كل اعتبار، وتؤمن أن خدمة الناس أسمى من الراحة الشخصية، كما تقول والدتها.

 

شاركت في تخفيف تداعيات حرائق المواسم

وعن طفولة الشهيدة هفرين خلف قالت أن في الصفوف الابتدائية سكنت روحها المحبة للناس. تذكر الأم موقفاً من الصف الخامس "اعتقد المعلم أنها مسيحية لأنها كانت محبة لكل زميلاتها، لا تميز ولا تفرق. ظلت تلك الروح ترافقها في كل محطة من محطات حياتها، تجمع ولا تفرق، تهتم بكل إنسان من حولها. لم توقفها الظروف القاسية، بل حولتها إلى وقود لنضالها. حين أحرق الاحتلال التركي المحاصيل واشتعلت الأرض، قدمت نفسها لوزارة الاقتصاد لتكون أقرب إلى آمال الناس وحل مشاكلهم اليومية. أمضت سنتين تعمل لتخفيف المعاناة، وتسعى إلى مشاريع تقرب المواطن من لقمة عيشه وتخفف مخاوفه".

 

 

مراقبة من المخابرات التركية

لدى هفرين خلف حلم استطاعت تحقيقه بفضل إصرارها وهو مستمر بفضل ما تركته من رؤية، وقد بدأته مع إعلان مشروع الأمة الديمقراطية الذي سعى للتعايش بين المكونات "حلمت هفرين بتأسيس حزب يجمع الكرد والعرب وجميع المكونات كشركاء على هذه الأرض، كانت معها الشهيدة صالحة وغيرهن، واتخذن القرار بأن يناضلن معاً لبناء فضاء سياسي جديد. سارت هفرين بين البيوت من الرقة إلى الطبقة ومنبج، زارت الناس بيتاً بيتاً، بنت الثقة وخلقت علاقة مباشرة مع الأهالي، وهنا تأسس حزب سوريا المستقبل، لكن طريق الحق لم يكن سهلاً، بل محفوفاً بالتهديدات. منذ خروجها من مؤسسة نور ديرسم كانت تحت مراقبة استخباراتية، وتعرضت لاحقاً لتهديدات من مرتزقة تابعين للاحتلال التركي، ورغم ذلك، لم تتوقف عن العمل. تعرضت سيارتها لطلقة نارية في الدولاب، لكنها قالت بهدوء، (لا تخافي يا أمي لن أخاف من تهديداتهم). كانت كلماتها أقوى من رصاصهم، وصوتها أقوى من ترصدهم".

تروي سعاد مصطفى كيف كانت تتصل بابنتها كل مساء لتطمئن عليها "في إحدى المرات كانت في اجتماع يضم مئات العرب وكانت هي الكردية الوحيدة، فأخبرت والدتها بأنها مطمئنة لأن الناس يحبونها ويقدرونها. كانت ثقتها بالمجتمع وبالناس جزءاً من شجاعتها وعمق عزيمتها".

ولكن في صباح الحادي عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019، نصبت مخابرات الاحتلال التركي كميناً محكماً على طريق الحسكة. حاولت والدتها منعها عن الذهاب، لكن هفرين خلف ضحكت وقالت "لا تخافي يا أمي لدي لقاء في الصباح الباكر في مدينة الحسكة". رافضة أن تصطحب والدتها لتجنبها تعب الطريق وطلبت منها متابعة اللقاء على شاشة التلفاز. حين اقترحت والدتها تعليق القرآن لحمايتها، قالت "القرآن موجود بين ثيابي يا أمي". ودعتها والدتها عند باب البيت، احتضنتها وكانت تنظر إليها وهي تبتعد، كأنها شعرت بأنها تراها لآخر مرة.

 

 

الاغتيال

ما حدث بعدها كان أكثر قسوة من أن تصفه الكلمات. كمين محكم، جريمة وحشية ارتكبها أعداء الإنسانية بحقد واضح. قتلوا هفرين بدم بارد، ولم يرحموا جسدها ولا رسالتها. كانت محاولة صريحة لإخماد صوت المرأة الحرة، لكنهم فشلوا. الحقد الذي دفعهم لارتكاب هذه الجريمة لم يستطع قتل الفكرة التي حملتها، ولم يستطع طمس نورها في قلوب الناس.

تقول سعاد مصطفى بصلابة "ظنوا أن باستشهادها سيكسرون النساء، لكن بعد استشهادها نهضت آلاف النساء وقلن بصوت واحد. نحن هفرين خلف ولن نستسلم. سيرنا على دربها سيستمر، لأن رسالتها كانت أكبر من اسم واحد، وكانت مشروعاً يحمل شعار المرأة والحياة والحرية بلا رجعة. أصبحت هفرين رمزاً للنضال ليس فقط للمرأة الكردية، بل لكل امرأة حرة في الوطن. الدرس الذي تركته هفرين واضح وبسيط، الحرية لا تهدى بل تنتزع، والمشاركة لا تعطى بل تنتزع من يد الظلم. إذا لم تتحرر المرأة فلن يتحرر الرجل، ولن يتحرر المجتمع كله. لذا فإن نضالها من أجل مشاركة حقيقية بين جميع مكونات المجتمع هو طريق إلى حرية شاملة، ونور يضيء دروب كل من يؤمن بالعدالة والمساواة".

 

 

رسالة مستمرة

في ذكرى استشهادها، تبقى كلمات والدتها شهادة حية "هفرين خلف كانت تحمل في داخلها قلباً حنوناً وإنسانية لا تفرق بين أحد، تضع مصلحة الناس فوق رفاهيتها الخاصة، وتصنع من صوتها سلاحاً للسلام. قتلوا جسدها لكنهم لم يقتلوا رسالتها. هفرين نور يضيء دروب النساء والرجال الذين يؤمنون بأن العدالة ممكنة، وأن المجتمع الذي يحترم المرأة هو مجتمع يضمن مستقبله".

وفي ختام حديثها قالت سعاد مصطفى "ستظل حياة هفرين خلف ورسالتها علامة مضيئة في ذاكرة الشعوب، وشعلة لا تنطفئ في مواجهة الظلم والاحتلال. اغتيالها لم يستطع أن يضعف إرادتها، ولم يمحو أثرها في قلوب النساء والرجال الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. هفرين خلف أصبحت رمزاً للمرأة الحرة، ودليلاً على أن صوت الحق أقوى من كل تهديد ورصاص، وأن النضال من أجل الحرية والمساواة هو مشروع خالد يستمر مهما تكاثفت الصعاب. ستبقى سيرتها مصدر إلهام لكل من يسعى لتحقيق مجتمع يضمن مشاركة المرأة ويكرم الانسانية، ويؤمن بأن السلام والعدالة هما أساس البناء الحقيقي لأي وطن".