زواج القاصرات في العراق يعود للواجهة من جديد
شبح مطاردة الأحلام الوردية للفتيات يعود ويرمي بشباكه على حياة القاصرات في العراق بعد ارتفاع حالات تزويجهن دون سن الـ 18 عاماً بمباركة مجتمعية وعرف عشائري
غفران الراضي
بغداد ـ .
أثار فيديو تم تداوله بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي في أواخر تشرين الأول/أكتوبر، جدلاً واسعاً حول ظاهرة استغلال القاصرات في العراق، لتصبح قصة الفتاة التي تم تزويجها وهي في 12 من عمرها قضية رأي عام.
وظهرت والدة الفتاة في الفيديو الذي نشر على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تناشد الجهات الحكومية لإنقاذ ابنتها من والدها الذي قرر تزويجها لشقيق زوجته الثانية وبعقد زواج عرفي وغير قانوني وبالإكراه خارج المحكمة دون رضى الفتاة، وهو ما أثار موجة تفاعل واسعة دفعت بالناشطين إلى تنظيم حملة للضغط على السلطات من أجل التحرك، والتصدي لما وصفوها بـ "جريمة الإعدام المبكر بحق الطفلة العراقية".
إلا أن رد وزارة الداخلية العراقية كان صادماً إذ قالت في بيان نشر في 29 تشرين الأول/أكتوبر، "إن الشرع والقانون يجيزان زواج القاصر بوكالة والدها"، عذرٌ أقبح من ذنب حصلت عليه الوالدة التي تحاول حماية ابنتها القاصر من محاولة تزويجها في سن مبكرة، كما أثار البيان موجة غضب بين الناشطين الذين وجهوا انتقادات واسعة لوزارة الداخلية، معتبرين أن تصرفها غير قانوني، خاصةً بعد مزاعم الوزارة أن الزواج تم برضى والدها، متسائلين عن الفتاة نفسها وموقفها.
وتقول والدة الفتاة القاصر والتي فضلت عدم الكشف عن اسمها خوفاً من ملاحقة أسرية أو عشائرية، لوكالتنا، أنها سافرت لتبتاع بضاعة جديدة بحكم عملها في بيع الألبسة إلكترونياً عبر صفحات متعددة في مواقع التواصل، وقامت بترك ابنها وابنتها عند والدتها لترعاهما أثناء غيابها.
وفي غياب الأم جاء الأب ليأخذ الطفلين ليمكثا في منزله، وهو ما اعتبرته الأم التي تحتفظ بحق حضانة الطفلين أنه أمر عادي وطبيعي، إلا أن الطفلة أخبرت والدتها في مكالمة هاتفية أنها تعرضت للاغتصاب من قبل شقيق زوجة والدها، وأن والدها يضغط عليها لتزويجها، على حد قولها.
وأوضحت والدة الفتاة التي هي أيضاً تزوجت وهي قاصر، أن الأمور تطورت ليلجأ والد ابنتها لحل القضية بتزويجها من مغتصبها بعقد زواج شرعي خارج المحكمة، "بعد اتصال ابنتي بي واستغاثتها لم أجد غير تحويل القضية إلى قضية رأي عام لإنقاذها لأن ما حصل لها جريمة، فقد تحولت جريمة الاغتصاب إلى زواج بقاصر بل زواج بطفلة".
وأشارت إلى أن "الشرطة المجتمعية فشلت في إغاثة الطفلة، خاصةً بعد أن نشرت على صفحتها، أن القضية حلت واعتبار الزواج شرعي، ولا يمكنهم التدخل باعتبارها قضية أسرية وزواج بموافقة الأب".
ويشترط قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لعام 1959 المعدل، إكمال الفتاة 18 عاماً حتى تستطيع الزواج حسب المادة 7 الفقرة 1، كما يجرم زواج القاصرات والزواج بالإكراه، وما يعرف بزواج النهوة الذي يمنع الفتاة من الزواج برجل خارج العشيرة ويبيح قتلها في حال رفضت، واعتباره جريمة يعاقب عليها.
إلا أن الفقرة الأولى من المادة 8 والتي تنص على أنه "إذا طلب من أكمل الخامسة عشرة من العمر الزواج، فللقاضي أن يأذن بذلك، إذا ثبتت له أهليته وقابليته البدنية، بعد موافقة وليه الشرعي، فإذا امتنع الولي، طلب القاضي منه موافقته خلال مدة يحددها له، فإن لم يعترض أو كان اعتراضه غير جدير بالاعتبار، أذن القاضي بالزواج"، يعطي الأب حق تزويج الفتاة حتى وإن لم تكن قد بلغت الـ 18 عاماً.
وأكدت والدة الفتاة على أنها لن تسمح أن تصبح ابنتها ضحية اغتصاب وزواج بمباركة الأب وأنها ستلجأ للقانون العراقي بعد أن وكلت محامي لمتابعة القضية، وكان لناشطات ومنظمات المجتمع المدني دور في مساعدتها.
تقول الناشطة بنين إلياس لوكالتنا أنها تتابع قضية الفتاة ووالدتها بشكل مباشر، وتواصلت مع جهات إعلامية لنشر القضية سعياً للحصول على حق الفتاة، "القضية متعلقة بطريقة تعاطي المجتمع القريب من الأم وابنتها وأقصد هنا اسرتيهما، فتزويج فتاة بعمر 11 عاماً يعد استغلالاً".
وتؤكد أن القضية لم تعد تقتصر على تزويج الفتاة وهي قاصر، بل أصبحت قضية اغتصاب وتزويج الضحية من مغتصبها بمباركة الأب والأسرة والمجتمع "الشرطة المجتمعية أعطت إيعاز عدم ثقة وهي تتعامل مع قضية تزويج القاصرات والاغتصاب دور المتفرج".
هذه القصة التي كشفت عنها من بين آلاف القصص والقضايا والانتهاكات التي يتم التستر عليها، فالعديد من الفتيات لا تستطعن رفض ما تمليه عليهن العائلة، حتى وإن كانوا يسلبون حقوقهن.
تقول "ل.ع" البالغة من العمر 15 عاماً، عن قصة زواجها من ابن عمها قبل قرابة العامين بشيء من التردد "في أحد الأيام كنت عائدة من المدرسة فوجدت عمي وابنه في منزلنا، فوجئت عندما استقبلوني بالأحضان والمباركة، لم أفهم ما الذي كان يحصل، فيما بعد علمت أنهم جاؤوا لطلب موافقة أبي لتزويجي من ابنهم، وقد وافق والدي على ذلك".
تجد "ل.ع" التي خسرت حقها في اتمام تعليمها كغيرها من الفتيات وعيش طفولتها، أن ما حدث معها كان أشبه باللعبة، فقد كانت في عمر لم تكن تعرف أو تفهم ما معنى الزواج وكيف يحدث وما تبعاته وتفاصيله، ولم تفكر به قط على حد قولها.
وعن أصعب المواقف التي واجهتها بعد إجبارها على ترك الدراسة والتفكير في بيتها وزوجها المستقبلي كما وصفه والدها، تقول "لم أكن استوعب طلب والدي ترك الدراسة وعدم الذهاب للمدرسة مرة أخرى، كان الموضوع أشبه بكابوس قطعه وباء كورونا وتوقف المدارس لأتفاجأ بتحديد موعد زفافي".
ورغم مرور عامين على زواجها وهي فتاة قاصر أجبرت على عيش حياة لم تكن تحلم بها، ولا زال حلم العودة إلى المدرسة حسرة في قلبها، "في معظم الأحيان أصحو من النوم وقد تملكني الاستغراب لأسال نفسي لما أنام هنا وكأنني في حلم، لأعود إلى الواقع متمنية أن كل ما حصل قبل عامين مجرد كابوس سيختفي".
وعن تأثير الزواج في سن مبكرة جداً على حياتها وصحتها وتحملها لمسؤوليات تفوق طاقتها تقول "لم أكن أفهم شيئاً عن تلك العلاقة الزوجية، كان شيئاً مرعباً بالنسبة لي، وللآن أعاني من مشاكل صحية وأزور طبيبة نسائية أملاً في التحسن"، مشيرةً إلى أن علاقتها مع زوجها سطحية "لا نتكلم كثيراً... يخرج من الصباح الباكر للعمل في ورشة حدادة ويعود في ساعات متأخرة من الليل"، بينما انحصر عملها هي على قضاء يومها في إدارة أسرة تتكون من 12 فرداً، والأعمال المنزلية وإعداد الطعام "اتمنى أن يكون كل ذلك حلماً، فأنا أعيش في عالم ليس عالمي، وأقوم بأعمال ومهام لا أود القيام بها".
فيما تروي "س.و" البالغة من العمر 45 عاماً، قصة ابنتها القاصر التي توفيت أثناء ولادة طفلها الأول، لعدم تحملها آلام ومخاض الولادة لصغر سنها، لتفقد حياتها بعد حدوث نزف في الرحم، "بعد وفاة زوجي نذرت حياتي لتربية بناتي الثلاثة ورغم التعب والمسؤولية إلا أنني كنت سعيدة برؤيتهن يكبرن أمام عيني".
ولكن فرحة الأم لم تدم، فالأعمام وأولادهم بدأوا بفرض وصايتهم على عائلتها بذريعة أنهم الأولياء والمسؤولين عنهم بعد زوجها، "بدأ أخوة زوجي بالتدخل في حياتنا بحجة المحافظة على شرف الأسرة"، ليتعدى الأمر ويطلب أحد الأعمام منها تزويج ابنتها الكبرى والتي كانت تبلغ من العمر 12 عاماً، لابنه.
لم تستطع "س.و" الرفض وإيقاف الزواج أو الدفاع عن حق ابنتها القاصر في عيش طفولتها، "أشعر بالذنب، فبالرغم من أنني كنت رافضة لفكرة زواجها في سن صغيرة، إلا أنني لم أستطع حمايتها من رجال العائلة الذين فرضوا سيطرتهم وآرائهم علينا بعد غياب زوجي".
لم تقف معاناة الفتاة القاصر عند الزواج في سن صغيرة وانتهاك كافة حقوقها، فقد كان لحملها بعد زواجها بفترة قصيرة مأساة كبيرة، فقد فقدت حياتها أثناء ولادتها لطفلها الأول بعد حدوث نزف في الرحم.
الندم والحسرة لم يختفيا من حياة "س.و" بعد فقدان ابنتها الكبرى، ولكن منحها الدافع والقوة لحماية ابنتيها الصغيرتين "أحاول أن أحمي أبنتي، وأن تكملا دراستهما، وتحققا ما تحلمان به، لا أريدهما أن تواجها مصير شقيقتهما الكبرى".
ويدافع ناشطون وقوى مدنية عراقية منذ سنوات لاستصدار قانون لحماية حقوق الأطفال والمرأة، في ظل تنامي ظاهرة العنف الأسري وتزويج القاصرات واستغلالهن في البلاد، فيما طالب مرصد الحريات للدفاع عن حقوق المرأة والطفل بإلغاء مديرية الشرطة المجتمعية بالكامل مؤكدةً أنها تشجع على العنف الأسري وتتغاضى عن زواج القاصرات".
ويؤكد ناشطون في مجال حقوق النساء والأطفال أن أعداد الفتيات ضحايا الزواج المبكر تقدر بعشرات الآلاف في مختلف مناطق العراق في ظل تأثر المجتمع بالثقافة العشائرية المسيطرة على الحياة في مختلف مفاصلها، وتمسكها بمعتقداتها التي تنتهك حقوق النساء والفتيات.
بينما تعتقد الدكتورة ندى العابدي وهي أستاذة جامعية ومهتمة بشؤون المرأة أن "الذكورية والفحولية بمنطق الرجل العراقي تجعله يتصرف ضمن منطق ما يؤمن به حتى وإن كان في منصب مسؤولية حماية المرأة فالشخصية الفحولية التي تسيطر على رجل الشرطة المجتمعية في تنفيذ القانون تجعله ينضم إلى عرف العشيرة والقبيلة في التعامل مع قضايا المرأة".
وأشارت إلى جانب مهم جداً وهو عدم وجود حماية لأجل تنفيذ القانون من الملاحقة العشائرية إذا ما حاول أن ينقذ امرأة من ظلم أسري أو عشائري.
وتجد ندى العابدي أن المشكلة ليست في فقرات القانون التي تتعامل مع قضايا المرأة بل في التطبيق "هناك فقرات قانونية في قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات تنصف المرأة بما يخص الزواج أو حتى الاغتصاب والتحرش لكن المشكلة في تنفيذ القانون أو حتى قدوة المرأة في الوصول إلى الجهات المعنية وتقديم شكوى ضد المجرم ولا ننسى أن أغلب الحالات يكون فيها المجرم ضمن إطار الأسرة".
وتؤكد ندى العابدي أن مرجعيات السيطرة والتأثير على المجتمع العراقي تتمثل بمرجعية القانون والعشيرة والأعراف والضمير بالإضافة لمرجعية الدين ونتيجة لضعف القانون وطبيعة المجتمع العشائرية كان لها دوراً أكبر.
بينما تعزو ارتفاع حالات زواج القاصرات إلى الوضع الاقتصادي السيئ الذي يجعل بعض الأهالي يفضلون تزويج بناتهم هرباً من تحمل مسؤولية الانفاق خاصة الفتيات الغير متعلمات والغير عاملات.
وختاماً أكدت على ضرورة محاربة ظاهرة زواج القاصرات عن طريق تفعيل القانون وحماية المسؤول عن تنفيذه من شرطة مجتمعية وجهات مختصة قانونية، بالإضافة إلى تفعيل دور المرأة في المجتمع من خلال إلزامية التعليم وفرص عمل للنساء لكسر حاجز الفقر والمشاكل الاقتصادية التي تجعل الأهل يلجؤون لزواج بناتهم خوفاً من مستقبل مجهول.