وداد عقراوي: تغيير القدر بيد الإنسان

الدكتورة وداد عقراوي، الحائزة على جائزة السلام العالمية، والتي عاشت طفولتها بين براثن مجازر الأنفال

مركز الأخبار ـ ، تقول "بدأ كفاحي ضد الاستعمار منذ كنت في الصف الثالث الابتدائي، ولا زال متواصلاً حتى الآن".
ولدت الدكتورة وداد عقراوي عام 1969 في مدينة عقري في إقليم كردستان، تعرضت خلال المرحلة الابتدائية من دراستها إلى العديد من ممارسات الإجحاف والاضطهاد على يد النظام البعثي. فحين كانت تدرس في الصف الثالث الابتدائي دخل أحد المعلمين البعثيين إلى الصف وطلب من جميع التلاميذ إنكار انتمائهم القومي واعتبار أنفسهم من الآن فصاعداً بعثيين فقط. لكن حين وصل الدور إليها رفضت أوامره. 
ورغم العنف الجسدي والتهديدات إلى أن وداد لا تتراجع عن موقفها. وتعرضت لمختلف أشكال القمع منذ ذلك التاريخ وحتى الوصول إلى الدراسة الجامعية، شهدت العديد من الأهوال، منها مجازر الإبادة العرقية المعروفة بالأنفال، لذلك تركز جل اهتمامها على قراءة الكتب وتحقيق النجاح.  
ولكي تتمكن من ترجمة الأحداث والأهوال التي عايشتها وشهدتها إلى نتاج علمي ملموس وتضعه في خدمة شعبها، سافرت إلى أوروبا. وهناك أيضاً حققت النجاح في مواجهة مصاعب الحياة واللغة الأجنبية. وألفت كتاباً باسم (Kurdland)، تحكي فيه عن سيرة حياتها خلال مرحلة الطفولة وفترة الدراسة، وما شهدته خلال فترة الأنفال في إقليم كردستان.  
وفي عام 2014 حازت الدكتورة وداد عقراوي على جائزة فيفر الدولية للسلام تكريماً لجهودها ونجاحاتها. وخلال مراسم استلام الجائزة أهدت الجائزة إلى شنكال وكوباني. هذا الموقف المنسجم مع روح المرحلة لاقى استحساناً كبيراً لدى الرأي العام العالمي، ونشرت حوله العديد من التقارير والأخبار والبرامج في وسائل الإعلام. 
الدكتورة وداد عقراوي أجابت على أسئلة وكالتنا حول مضمون كتابها وحول مجمل الأوضاع في كردستان منذ تلك الفترة وحتى الآن. 
 
شهدت كردستان على مدى التاريخ العديد من الحروب. أنتم من مدينة عقري في إقليم كردستان، وخلال سيطرة النظام البعثي تعرض الكرد للقمع والاضطهاد، هل لكم أن تحدثونا عن طفولتكم؟
قبل كل شيء أود أن أشكركم على منحي هذه الفرصة، كما أتوجه بالتحية للقراء. 
مثل جميع الأطفال الكُرد، تحطمت طفولتي أيضاً وتجزأت، الحروب والهجمات ضد الكرد استمرت سنوات طويلة في بعض الأماكن. تلك الذكريات لا زالت عالقة في ذهني ولا زالت تمر يومياً أمام ناظري. كانت هناك قليل من الأوقات الجميلة، وهي تلك الأوقات التي كنت ألعب في حدائق كردستان.
نضالي من أجل حقوق الإنسان بدأ حين جاء أعضاء منظمة الشباب للنظام البعثي إلى مدرستنا. أولئك الشباب كانوا يسألوننا دوماً عن صدام حسين. معظم هؤلاء الشباب كانوا من أبناء العوائل العربية، ممكن كانوا يسكنون في مدينة عقري، جاؤوا من أجل العمل على تطبيق برامج حزب البعث. هذا الوضع كان دافعاً كبيراً من أجل النضال، كنت أدافع عن التلاميذ الذي وقعوا ضحية تحت أيدي هؤلاء وأدافع عن حقوقهم.
 
تحدثتم عن ظلم النظام البعثي، لا نريد أن نذكركم بتلك الفترة، ولكن من الضروري بناء ذاكرة المجتمع. كيف تمكنتم من العيش في مواجهة مثل هذا النظام الظالم؟ نود لو تحدثوا قرائنا عن تلك الفترة.
للحديث عن ظلم النظام البعثي، أود أن اذكر حادثة حصلت معي.
عندما كنت في الصف الثالث، دخل أحد البعثيين وقال لنا: "يجب أن تنتسبوا جميعاً إلى تنظيم البعث"، الأطفال الصغار انضموا جميعاً. وعندما وصل الدور إلي، قلت إنني لا أريد أن أكون عضواً في تنظيم البعث. لا زلت أتذكر حالة الصمت التي خيمت وقتها على الصف. الجميع كان ينظر إلي مستغرباً.
الرجل حاول أن يقنعني مرة أخرى وكرر طلبه مرة أخرى وأنا كررت رفضي، كان رجلاً ضخماً وقوياً، كنت أبدو أمامه صغيرة جداً.  
كان جسدي يبدو صغيراً جداً قياساً بجسده، كان رأسي بالكاد يصل إلى مستوى ركبتيه، ولكنني بموقفي لقنته درساً. في تلك الفترة وبسبب سوء التغذية والأمراض كانت حياتي في خطر، خلال أعوام 1974 وحرب العراق ضد الكُرد كانت الأوضاع صعبة، لذلك كنا نحن الأطفال نبدو هزيلين وضعفاء. ورغم ضعفي وقصر قامتي، تعرضت للعنف الجسدي على يد ذلك الرجل البعثي ليجبرني على تغيير رأي. ورغم جميع تهديدات ذلك الرجل الضخم كوحش ورغم العنف إلا أنني لم انصاع له ولم أغير موقفي.
 
ذكرتم في سيرتكم الذاتية: "التعلق بحقوق الإنسان خيار فردي، ولكن لا يمكن لفرد واحد النضال من أجل حقوق الإنسان"، برأيكم ما هي العلاقة بين حقوق الإنسان والتطور الاجتماعي؟ 
برأي أن فكرة العدالة، وقيم حقوق الإنسان والحرية جميعها مرتبطة بعضها ببعض. ولا أعني فقط حرية التعبير، بل أن حرية الشعور والتفكير أيضاُ مهمة. الحرية لا تعني أن تتحدث ومن ثم لا تشارك بنفسك. هذا النمط هو نمط الأنظمة المستبدة والقمعية والفاشية. حيث يرتكبون كل الشرور باسم الحرية، لذلك فإنني أرى أن الحرية من الأمور المهمة التي يجب على المرء تحقيقها. ورغم أن الحرية حالة طبيعية، ولكن أحيانا تعتبر وكأنها تتعلق بالقدر، فبعض البشر يولدون في مناطق تتمتع بحقوق طبيعية وتعيش بكرامة. نحن الكُرد نرى كل يوم كيف يتم إنكار حقوقنا، حقوقنا الطبيعية تسلب منا بشكل يومي. فقدان الحقوق والحريات يعني فقدان المسؤولية. يجب أن ندرك جيداً أهمية حق المشاركة والمسؤولية والحياة التشاركية.
 
درستم في جامعة صلاح الدين، في تلك الأثناء تصاعد قمع النظام البعثي بشكل كبير، ومع ذلك تمكنتم من تحقيق النجاح في العديد من المجالات، هل لكم أن تحدثونا عن تلك الفترة؟
على الصعيد الشخص، عشت في وسط تنعدم فيه الحرية، لذلك فإنني عرفت قيمة وأهمية حرية الرأي والتعبير. ولكي أتمكن من مواصلة الحياة بدأت بقراءة الكتب، وعملت على تأسيس وبناء عالمي الخاص بي. لم أنتظر أحداً ليحدد لي هويتي، وبذهنية 
عن أفكار جديدة ومختلفة.
 
على الصعيد العائلي تأثرتم بأنفال عام 1987، وبشكل خاص بصفتكم امرأة كيف استقبلتم تلك الفترة؟ في عام 1987 عندما ارتكب نظام البعث مجازر الأنفال بحق الكرد، تم اعتقال وتهجير جميع المواطنين الكرد الذين صنفوا كمعارضين، وتم قصف المنطقة بالأسلحة الكيمياوية من قبل الجيش العراقي، وكنت أنا ووالدي ووالدتي على رأس تلك القائمة، عشنا لحظات عصيبة جداً حتى تمكنا من النجاة من الموت والإعدام والاختفاء. 
 
بالعودة أيضاً إلى السيرة الذاتية، ذكرتم: "تغيير القدر يعني تغيير الحياة إلى الأبد" هذه المقولة مهيبة، وذات معنى عميق خاصة بالنسبة للنساء الكرد، هل يمكنكم القول إنكم نفذتم ذلك بشكل كامل، أم أن الرحلة لا زالت مستمرة؟
نعم يمكنني القول إنني نجحت، في الحقيقة إن تغيير القدر هو بيد الشخص نفسه. يستطيع المرء أن يعيش كما يريد. فأنا لو كنت قد تنازلت عندما كنت طفلة، وتنازلت في الصف أمام رغبات ذلك الرجل البعثي الضخم، وعشت حياتي كبعثية، لكان قدري مختلفاً بالتأكيد. فرغم عمري الصغير إلا أنني أدركت أنه أمر مفروض قسراً ويجب علي أن أتصدى له. بالتأكيد هذا مجرد مثال، وقد عشت الكثير من المراحل العصيبة خلال حياتي وتمكنت من تجاوزها. ولكن المهم في الأمر إنني لم أتنازل أمام أي رجل ولم أعش بحسب رغباتهم. لذلك تمكنت من تجاوز جميع المصاعب والعراقيل التي واجهتني، وحققت النجاح.
 
لقد واجهتم خلال حياتكم العديد من مجازر الإبادة بما فيها الأنفال، ورغم ذلك كنتم تعملون على جمع الوثائق، وهذا عمل ينطوي على الكثير من المخاطر وهو في نفس الوقت عمل مهم، كيف تمكنتم من جمع الوثائق؟
خلال مجازر الإبادة العرقية من المهم جداً جمع الوثائق والأدلة المتعلقة بتلك المجازر. كما كانت تظهر آثار سريعة على ضحايا استخدام الأسلحة الكيماوية سواء على الأشخاص أو على الطبيعة. لذلك قمنا بتصعيد وتيرة عملنا السري. أثناء الهجوم بغاز الخردل والسيانيد كان هناك عدد كبير من الضحايا المدنيين بينهم نساء وأطفال. وقد حددنا محيط المجزرة، وقمنا بجمع الأدلة والوثائق على مراحل.
 
بعد كل تلك الصعاب انتقلتم إلى أوروبا، كيف كان تأثير الحياة المختلفة من ناحية الثقافة واللغة وطبيعة الحياة؟
الاندماج لم يكن أمراً صعباً، خلال فترة قصيرة أتقنت اللغة، دخلت العديد من الامتحانات ودخلت الجامعة. قمت بإعادة بناء شخصيتي من الناحية الأكاديمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكنني كنت على الدوام أشتاق إلى أمي وأبي وأصدقائي وأقاربي. واشتقت أكثر إلى أرض كردستان. كانت كل أحلامي وحياتي وخيالاتي متعلقة بكردستان التي عاش فيها أبي وأمي وأصدقائي وأقاربي، كنت شديدة الارتباط بأرض وطني وتاريخه.
في أعوام التسعينيات كانت وسائل التواصل محدودة جداً، لم تكن هناك الأجهزة الخليوية، ولم تكن قد تطورت وسائل التواصل الاجتماعي الموجودة حالياً، وكان الاتصال الهاتفي مع إقليم كردستان صعباً جداً، وفي النتيجة كان من الصعب جداً التواصل مع عائلتي وأصدقائي في الوطن.
 
تلقيتم التعليم في مختلف المجالات، ومعظم الأشخاص المعروفين، عادة يبرزون في مجال تخصصي معين، أما أنتم فقد حصلتم على العديد من الاختصاصات، كيف كان تأثير ذلك على حياتك كامرأة؟
لقد اخترت العديد من مجالات التحصيل العلمي، ولكن كان هدفي الأساسي هو كيف أستطيع أن أقدم خدمة للإنسانية. كان هذا الأمر مهماً جداً بالنسبة لي كامرأة كردية. هندسة العمارة كانت جزء من ثورتي الشخصية منذ أن كنت في الـ 16 من عمري، اخترت مجال الهندسة لأنني كنت أرغب في أثبات حقيقة أن النساء قادرات على خوض المجالات التي احتكرها الرجال، وأن تتقن العمل فيها.
مع بداية عام 1990 رغبت في دراسة علم الوراثة والطب. لأنني كنت لا أزال أتذكر ضحايا الأنفال، أتذكر مأساتهم والاضطهاد الذي تعرضوا له، كان كل ذلك يمر أمام ناظري، لذلك رغبت أن استوعب وأفهم التغييرات والتأثيرات الكيمياوية التي حصلت على أجسادهم، لذلك قمت بتغيير الكلية التي أدرس فيها من كلية الهندسة إلى كلية الطب.
كما درست قوانين حقوق الإنسانية والقانون الدولي، لكي أتمكن من الدفاع عن حقوق المجموعات الاجتماعية التي تتعرض للعنف والاضطهاد.
 
كتبتم كتاباً عبارة عن سيرة حياة، وهذا شيء مهم بالنسبة للنساء الكرد. إذا طلبنا أن تعرفي كتابك بكلمة، ماذا تقولين؟
إذا أردت أن أعرف كتابي بكلمة واحدة سأقول "Kurdland" (أرض الكرد)، لأن الكتاب لا يتحدث عن حياتي فقط، بل يتحدث عن الظلم والمآسي التي تعرض لها جميع الكرد خلال تاريخهم. لقد أوليت في كتابي اهتماماً كبيراً بالمرأة الكردية ونضالها من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة. إذا أردت تقديم الكتاب بكلمتين، فسأقول" أبنة أرض الكرد"، لأن هذه هي هويتي.
 
حصلتم على جائزة تيريس للسلام والحرية لعام 2017، وأهديتم الجائزة إلى شنكال وكوباني، هذا الموقف لاقى صداً واسعاً، هل لكم أية مساع الآن من أجل نساء كوباني وشنكال؟
نعم، منذ عام 2014 وحتى الآن لا زالت مساعينا متواصلة من أجل ألا يتم نسيان الضحايا المدنيين، والدفاع عن الضحايا. لقد أهديت جائزة السلام العالمية التي حصلت عليها، إلى أهلي في شنكال وكوباني. كما نشرنا وثائق تتعلق باستخدام العنف الجنسي كسلاح في العنف. منظمتنا كانت أول منظمة مجتمع مدني، وضعت استراتيجية موسعة ونظمت حملات عالمية. وخلال الحملات وجهنا مناشدات لجميع زعماء العالم بالتدخل الفوري والسريع من أجل الحد من الاضطهاد والإبادة.
تمكنا منذ البداية من خلق أجواء إيجابية، لقد طالبنا باتخاذ تدابير ملموسة، كما ناقشنا آلية حماية الأطفال والنساء، ضد القمع والحروب والأضرار الجسدية والجنسية والنفسية، وخطاب الكراهية. وحددنا الخطوات المطلوبة من أجل الحد من الهجمات مستقبلاً، وهذا كله شكل عاملاً مساعداً لتأسيس مؤسسات إيزيدية جديدة.