ماذا تعرف المرأة التونسية عن حقوقها؟

لطالما كافحت الحركة النسوية التونسية منذ عقود من أجل تمتع المرأة بكامل حقوقها الإنسانية، وبالرغم من تحسن أوضاع النساء من نواحٍ كثيرة منذ صدور مجلة الأحوال الشخصية عام 1956، التي دافعت عن مكانة النساء ودورهن وسعت إلى تثبيت حقوقهن، إلا أن البنى المجتمعية والثقافية والقانونية السائدة والأحكام المسبقة التي تأخذ أحياناً شكل القداسة لا زالت تبرز التمييز ضدهن

 زهور المشرقي
تونس ـ .
لا يمكن لأحد إنكار إنجازات الحركة النسوية التونسية منذ الاستقلال التي حققت تقدماً لإرساء حقوق المرأة، بالرغم من بعض الإخفاقات لمجلة الأحوال الشخصية من ناحية إثبات جملة من الحقوق المنسية، إلا أنها تعتبر بداية الثورة الحقوقية بالنسبة للتونسية. 
 
فماذا تعرف المرأة التونسية عن حقوقها؟ وهل هي راضية عن وضعها الحالي؟ 
 
 
تعتبر رئيسة جمعية "صوت حواء" والناشطة النسوية جنات كداشي، في حديث مع وكالتنا أن وعي النساء بحقوقهن يتطلب رؤية شاملة حول الموضوع، ولابد من العودة إلى تاريخ تونس في مجال حقوق النساء وريادتهن في هذا المجال، مشيرةً إلى أنه لا يمكن أن نفكر في هذا التاريخ دون أن نذكر نساء تونس في عشرينات القرن الماضي، الذي أبرز مناضلات الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي وهو ما يفسر مستوى الوعي وروح المسؤولية للتونسية منذ عقود طويلة.
وتقول جنات كداشي إن "وعي المرأة التونسية بحقوقها كان منذ ثلاثينات القرن الماضي حين ساهمت جنباً إلى جنب مع الرجل في حركة المقاومة الوطنية وحاربت من أجل إثبات نفسها والظفر بحقوق أوسع، تُرجمت بعد ذلك بسنوات في مجلة الأحوال الشخصية التي تعتبر انتصاراً للمرأة، وبداية انطلاق ثورتها ضد السلطة والذكورية والإقصاء والتهميش والعادات البالية".
مؤكدة أن "وضع المرأة تطور مع أسس تطور الدولة الوطنية، بالرغم  من النواقص التي سجلتها المجلة والتي نتفهمها بظرفيتها التاريخية حينها، فكان تجريم ومنع تعدد الزوجات أول الانتصارات، ومنح حق الطلاق للنساء ومجانية التعليم وإجباريته، وما ذكرته كان الخطوة الأولى التي رسخت في التونسية عقلية التمرد والنضال من أجل حقوق أوسع، وهذا أعتبر من أولى الخطوات المفصلية في وعي النساء بحقوقهن". 
وتضيف أن "هذا التحول أحدث تغييرات نوعية ذات طابع ثوري، ارتبط بإجبارية تعليم المرأة وخروجها للعمل ما دفع إلى توسيع دائرة الوعي بالحقوق ورفع سقف المطالب والحريات، لنجد اليوم نخبة نسوية شرسة في دفاعها عن النساء وترسيخ حقوقهن حيث أصبحت هذه النخبة مشعل تونس المضيء في الدفاع عن الحقوق والحريات وتوعية من لا يفقهن حقوقهن للفهم ومزيد المعرفة، برغم كل الدعوات المضادة والتحريض وحملات التشويه الممنهجة من قبل العديد من القوى والتنظيمات الرجعية"، وتتساءل "إلى أي مدى يحقق هذا الوعي ضامناً للحق؟".
وتقول "ريادة التونسيات عربياً كمدافعات عن حقوق النساء، تعكس ما تحقق من تشريعات مهمة انتصرت للمرأة كقانون مناهضة العنف عام 2017 والذي كان ثمرة نضال حقوقي نسوي على مدى سنوات، هذا القانون الشامل يرتكز على أربع دعائم هي الوقاية والحماية والتجريم والتعهد بضحايا العنف، وهو قانون ثوري ولكن واقعياً لا تزال النساء تعنف ونحن في السنة الرابعة من دخوله حيز التنفيذ، وذلك بسبب ضعف التطبيق وقلة الوعي النسوي وعنصر الخوف والتردد". 
وتسأل "هل هناك وعي مجتمعي بحقوق النساء بعدم التمييز وبمناهضة العنف؟"، وأكدت أن المسألة ليست مرتبطة بالنساء بقدر ارتباطها ببعد مجتمعي ومؤسساتي "أجزم بأن النساء اللواتي تنتهك حقوقهن ويرضخن للصور النمطية وللمجتمع الذكوري لديهن مستوى من الوعي يجعلهن يدركن مدى الظلم والتمييز الذي يسلط عليهن".
وذكرت جنات كداشي أن تونس لديها رائدات في مجال الحركة النسوية وهن يعطين صورة على مدى وعي النساء بحقوقهن لكن هناك نقص في العمل والإمكانيات لتحقيق أهداف أكبر شمولية.
وترى جنات كداشي أن "الوعي مرتبط بالواقع، لكن الوعي وحده ليس كفيلاً بضمان الحق، حيث تعتقد أن مؤسسات الدولة التي تكفل الحقوق هي نفسها التي تنتهك حقوق النساء، وهنا تخص بالذكر على سبيل المثال الواقعة الأليمة التي هزت الوسط التونسي وهي مقتل المواطنة رفقة الشارني على يد زوجها الأمني.. رفقة التي خذلها الجميع من مركز الشرطة إلى الجهات القضائية في عدم تطبيق القانون لتكون ضحية عملية قتل فظيعة كانت فاجعة كبرى بالنسبة لنا". 
أما بخصوص مدى رضى النساء في تونس عن حقوقهن فتقول جنات كداشي "ليس هناك رضاء نسوي بالحقوق ونسعى كناشطات نسويات إلى تطويرها وتوسيعها بما يتماشى والواقع، ولازلنا نتطلع إلى ما هو أفضل وأكبر، بالإصرار على العمل دون خوف من أي مواقف يمكن أن تؤثر على أحلامنا في واقع نسوي أفضل، وهذه مسؤولية مشتركة بيننا كمجتمع مدني وبين مؤسسات الدولة، عن طريق توسيع دوائر الوعي".
وأشارت إلى أن نشر الوعي بأهمية فهم حقوق النساء وتوفيقه في تحقيق التوازن المجتمعي يكون عبر مؤسسات التعليم وتكوين الناشئة، ومن خلال البرامج التوعوية الإعلامية برسائل ذات محتوى جيد ومفيد يساهم في التوعية حتى نضمن أجيالاً تقدمية متحررة من عقد الإقصاء والذكورية المقيتة، وأيضاً من قبل وزارة الثقافة المسؤولة عن توفير نوادي توعوية في المسرح والسينما وغيرهما.
بدورها تستشهد الصحفية والمناصرة لحقوق النساء في تونس والعالم نسرين سويد، بمقولة الأستاذ فتحي التريكي المختص في الفلسفة السياسية وأستاذ كرسي اليونسكو للفلسفة، حين يقول "تحرير المرأة نقطة بداية وليس الدخول الفعلي إلى الحداثة"، وتضيف "هذا نتاج واقع ثقافي كامل العناصر بالتفاعل مع منظومته القانونية المؤسسة له يصعب إصلاحه.. مشهدٌ يمكن وصفه بأنه مزدوج متناقض مراوغ ومتنكر، حيث إنه نتاج وفرز لتمثلات ثقافية محددة متوارثة متسمة بالتصلب والنمطية وليست قادرة على جعل المرأة تتمتع بما هو موجود من قوانين تدعمها.. موروث ثقافي متحجر متصلب متقولب لن يكون مفيداً لموقع المرأة ولن يدعم استفادتها باستقلالية حقيقية وفعلية تامة في أجواء عصف ذهني مجتمعي ثقافي يجذب إلى الخلف، عصف يتسم بالردة والانقلاب برزت شذراته للسطح حين عرت رياح الثورة التونسية المنقوصة مكامنَ الرجعية الشرسة والمفترسة للنساء".
واستدلت نسرين سويد على ذلك بتواتر جرائم العنف والقتل والاغتصاب الشنيعة تجاه النساء مؤخراً، بتكشير المجتمع الذكوري، هذا الوحش النائم في ذهنية المجتمع التونسي، عن أنيابه وأقر بأن الآلة الثقافية هي من أنتجته وحافظت عليه ودعمته، وفي كل فرصة سينتظر لحظة انفلاته من سجنه أو أسره الذي فرضته عليه الإرادة السياسية لدولة الاستقلال والإرادة السياسية للنظام السابق الذي كان يصر على تجميل المشهد بحقوق المرأة دون العمل على عمق الأشياء، هذه الآلة متجذرة وكامنة كالعرق المدسوس والمسموم والمتوارى عن الأعين، ستبقى دائماً كالسيف المغروز في رحم المجتمع التونسي كلما توفرت الظروف الأمنية والسياسية ليكشر عن جنباته المسمومة وأكبر دليل على ذلك هو عدم تفعيل قانون الفصل 58 المتعلق بتشديد العقوبات في كل ما يتعلق بمسائل العنف تجاه المرأة والتي باتت ظاهرة مسيئة للمجتمع التونسي في العشرية الأخيرة من سنوات الثورة التونسية المنقوصة.
وتعتقد الصحفية التونسية أن تونس بحاجة إلى إعادة بناء ذهنيات جيدة حتى تكون قادرة فعلاً على تكريس المساواة الحقيقية والفعلية بين الجنسين في ظل ترسانة من القوانين التي بقيت حبراً على ورق لأن العائق الحقيقي أمامها هو فكري ثقافي بحت، الكل فيه متآمر على المرأة وعلى حقوقها وإنسانيتها.
 
 
أما الحقوقية التونسية نعيمة غرس الله، فتعتبر أن حقوق الانسان تعد المبادئ الأخلاقية والمعايير الاجتماعية التي تصف نموذجاً للسلوك البشري والتي لا يجوز المسّ بها وهي متأصلة بكل شخص لمجرد كونه إنساناً، فهي ملازمة له بغض النظر عن هويته أو مكان وجوده أو لغته أو دينه.
وتضيف ''حقوق المرأة هي جزء لا يتجزأ من حقوق الانسان، حيث لا فصل لهذه الحقوق بين كل مكونات المجتمع نساءً ورجالاً، تماماً مثل الحرية والكرامة كحق للجميع، وتعتبر هذه الحقوق من ضمن القوانين الدولية والوطنية التي تساهم في تعزيز رعاية المرأة وحمايتها، ومن بينها اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة". 
وتعتبر المجتمعات التي تعزز حقوق المرأة من المجتمعات الأكثر صحة وعدلاً، لأن فشل أي مجتمع في التخلص من التمييز ضد المرأة سيؤدي بالنتيجة إلى فشل عملية التنمية المجتمعية. 
وتلفت الانتباه إلى أن "هذه الحقوق تتعرض لجملة من الانتهاكات على الصعيد العالمي والعربي وخاصة في تونس التي تعتبر رائدة في مجال حقوق المرأة سواءً على مستوى ترسانة القوانين أو إبرازها، وآخرها القانون رقم 58 لسنة 2017 المتعلق بمناهضة العنف ضد المرأة أو على مستوى وعي المرأة وحملها مشعل المطالبة بحقوقها والدفاع عنها. 
وتؤكد الحقوقية التونسية نعيمة غرس الله، على أنه "برغم الصعوبات التي تواجه تطبيق القوانين على أرض الواقع خاصة القانون رقم 58 وهي صعوبات مادية في مجملها تعترض الدولة لتوفير كل الوسائل المنصوص عليها لحماية المرأة المعنفة والصعوبات الأخرى التي تعترض النساء لتجسيد الوصول إلى حقوقها وفهّمها والوعي بها، إلا أن النقطة المضيئة هي وعي أغلبية النساء بما منحهن إياه القانون والاستماتة في الدفاع عن حقوقهن، وأكبر دليل على ذلك تقلدهن لجملة من المناصب العليا في البلاد، ومشاركتهن الفعالة في الحياة السياسية ومشاركتهن الرجل في كل تفاصيل الحياة اليومية المهنية في تحدٍ لسياسة التهميش والإقصاء". 
بدورها تقول المختصة القانونية رباب حدّادة، إنه لطالما اعتُبرت التشريعات التونسية في مجال حقوق المرأة تشريعات ثورية، فمنذ إقرار مجلة الأحوال الشخصية عام 1956 افتكت المرأة التونسية حقوقاً وضعتها في مكانة قانونية متميزة مقارنة بوضعية المرأة في باقي دول المنطقة العربية، وأبرز الإنجازات التي تمثلت في منع تعدد الزوجات، والحق في الطلاق وتحديد سن الزواج بسن الرشد القانوني 18 سنة، وإقرار الزواج بعقد رسمي مدني، وإقرار دورها كراعية للأسرة بجانب الرجل.
وذكّرت بدور الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في حماية المرأة قانونياً ودعم الوعي بضرورة تعليم المرأة ومنحها الحق في العمل خاصة وأن المرأة التونسية كانت من أهم الفئات في المجتمع التي ناضلت في معركة التحرير من أجل نيل الاستقلال، والواقع أن أفكار النخبة التونسية المثقفة كان لها أيضاً تأثير واضح في تغيير الثقافة السائدة، ونذكر هنا المصلح الطاهر الحداد ومن أهم مؤلفاته "امرأتنا في الشريعة والمجتمع".
وترى رباب حدادة أن المرأة التونسية لم تتراجع أمام الضغوط والعراقيل وعملت بدأب عبر العقود المتتالية على تعزيز مكانتها في المجتمع، ومع ازدياد النشاط الحقوقي وبروز الجمعيات النسوية تواصلت المكاسب بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، حيث نص دستور 2014 في مواطن متعددة على واجب الدولة في حماية حقوق المرأة وعلى مبدأ مساواتها مع الرجل، وينص الفصل 21 على أنّ "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون بدون تمييز"، كما ينص الفصل 46 على أن "الدولة تلتزم بحماية الحقوق المكتسبة وتعمل على دعمها وتطويرها".
ووفق القانونية رباب حدّادة، تراكمت إنجازات السنوات بفعل النضال المتواصل لتقف المرأة التونسية اليوم شريكاً للرجل في كل الميادين المهنية وفي الحياة الأسرية مدركة تماماً حقوقها وواجباتها وبخاصة كيفية حمايتها مصممة على عدم قبول أي تنازل عن مكاسبها. 
ويمثل قانون 2017 المتعلق بمناهضة جميع أشكال العنف ضد المرأة أهم دليل على الحرص الشديد على ضمان التواصل، مع كمّ الإنجازات المكتسبة، برغم ظاهرة العنف التي تنامت في السنوات الأخيرة. 
وتؤكد المختصة القانونية رباب حدّادة، على أنه إلى جانب الضمانات القانونية، من الأهمية بمكان العمل على رفع الوعي لدى الأجيال الجديدة بمكانة المرأة، ولا يكون ذلك إلا بعمل مشترك بين الرجل والمرأة في الميدان وعبر الثقافة والتعليم والتربية.