حياة عمامي: التاريخ المزيّف لم يُنصف المرأة العربية وعلينا إعادة بناء الذاكرة النسائية
شهد تاريخ النساء المناضلات تهميشاً في العديد من السياقات، فعلى مر العصور غالباً ما تم إغفال مساهمات النساء في الحركات الاجتماعية والسياسية، سواء كان ذلك في سياق النضال ضد الاستعمار، أو حقوق النساء، أو الحقوق المدنية.

إخلاص الحمروني
تونس ـ رغم الحضور الفعلي والفعّال للمرأة في مسارات النضال الوطني والاجتماعي والثقافي في العالم العربي، إلا أن الذاكرة الجماعية لا تزال تعاني من غياب هذا الحضور أو تهميشه، فالتاريخ المدوَّن غالباً ما احتفى بنضالات الرجال ودوّن أفعال النخب، بينما ظلّت النساء في الظل، لا سيما أولئك المنتميات للطبقات الشعبية اللواتي قدّمن الكثير دون أن تُحفظ أسماؤهن أو يُعترف بإسهاماتهن.
لمعرفة أسباب تجاهل الرموز النسائية والاهتمام المحدود لهن ومظاهر هذا التجاهل، كان لوكالتنا الحوار التالي مع أستاذة التاريخ حياة عمامي.
كيف ساهمت الظروف الاجتماعية والثقافية في تقليل دور المرأة في التاريخ العربي؟
كانت البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية لفترات طويلة قائمة على أدوار تقليدية تحصر المرأة في مهام محددة مثل تربية الأبناء، خدمة الأسرة والاهتمام بكبار السن، دون الاعتراف بقدراتها العقلية أو السياسية أو القيادية. فالتعليم، الذي يُعد بوابة أساسية للتمكين، لم يكن متاحاً إلا لفئات ضيقة مثل بنات الملوك، أو الفقهاء، أو الأسر الثرية، في حين حُرمت منه غالبية النساء، خاصة في الطبقات الشعبية.
تعد هذه الفجوة في الوصول إلى التعليم أحد أوجه التفاوت الطبقي الذي ساهم في تغييب المرأة عن المشهد التاريخي الموثَّق، فبينما كان يُسمح لبعض النساء من الطبقات العليا بتولي الحكم أو الكتابة أو القيادة، بقيت ملايين النساء اللواتي ساهمن في الاقتصاد والمقاومة والعمل المجتمعي في الظل دون أي أثر مكتوب لأي من تحركاتهن. هذا جعل التاريخ يتحدث عن النخب فقط، بينما ظل دور المرأة الشعبية في الكفاح والإنتاج والإصلاحات الاجتماعية غير موثَّق، مما أفرز تاريخاً مجتزأ يعكس فقط الفئة المسيطرة والمهيمنة.
هل تعتقدين أن دور المرأة في التاريخ العربي تم تهميشه؟ ولماذا؟
نعم، وهذا التهميش لم يكن عابراً أو عفوياً، بل كان ممنهجاً لأسباب عدة. أولاً، أدوات التوثيق كانت بيد الرجال، وكان يُنظر إلى أدوار المرأة باعتبارها "ثانوية" أو غير جديرة بالحفظ. ثانياً، الثقافة السائدة لم تعترف بتجارب النساء كجزء من الرواية الوطنية أو القومية أو حتى الثقافية.
تاريخياً، تم تجاهل مساهمات النساء في الحروب، في التنظيم السري، في تمويل المقاومة وحتى في بناء المجتمعات بعد الاستقلال. كان يُنظر إلى هذه الأنشطة على أنها دور مكمل للرجال، وليس كجزء من الإنجاز التاريخي، وعندما تم التوثيق لبعض النساء، اقتصر ذلك على الشخصيات ذات الحظوة الاجتماعية أو قريبين من النخب. لذلك، يتم تصوير التاريخ وكأنه تاريخ الرجال فقط، مما يخلق فجوة كبيرة بين ما هو معروف وما يجب أن يُعرف.
هل هناك شخصيات نسائية في التاريخ العربي يجب أن نعرف عنها أكثر؟
بالطبع، هناك العديد من الشخصيات النسائية التي يجب أن نعرف عنها أكثر. التاريخ العربي مليء بنساء كان لهن دور محوري في العديد من المجالات، ولكنهن غُيِّبن عن الذاكرة الجماعية. على سبيل المثال، في تونس، نعرف القليل عن أروى القيروانية التي ساهمت في سنّ نظام الصداق القيرواني، الذي مثّل لبنة في مقاومة تعدد الزوجات. هذه قصة اجتماعية وحقوقية رائدة، لكن للأسف هي شبه غائبة خارج تونس.
هناك الطبيبة توحيدة بالشيخ، أول طبيبة تونسية، التي لم تُحظَ بما تستحق من احتفاء في ذاكرة الشعب التونسي. هي واحدة من أوائل النساء اللواتي اقتحمن ميدان الطب في بلد كانت فيه المرأة محصورة في الأدوار التقليدية.
أما في العالم العربي، هناك العديد من الأسماء التي يجب أن نتعرف عليها. مثل فاطمة المرنيسي، الكاتبة المغربية التي كانت من أول من طرحت فكرة تحرير العقل العربي من سلطته الذكورية. وفي لبنان، نجد ورثة بطرس، المناضلة العمالية التي اغتيلت بسبب مشاركتها في أول حركة احتجاجية نسائية لنساء قطاع النسيج في لبنان. وقد ساهمت هذه الشخصيات بشكل كبير في الحركات النسائية، وكان لهن دور بارز في النضال من أجل حقوق المرأة.
كيف يمكننا إعادة تسليط الضوء على دور المرأة في التاريخ العربي؟
أولاً، لا بد أن يصبح التوثيق ممارسة مواطنية جماعية، لا حكراً على الحكومة أو المؤسسات الأكاديمية. يجب أن يشترك الجميع في بناء هذا التاريخ، من خلال الجمعيات والمجتمع المدني والإعلام. هذا التوثيق يجب ألا يقتصر على السير الذاتية للنساء النخبويات فقط، بل يجب أن يشمل أيضاً نساء من الطبقات الشعبية، اللواتي قدمن الكثير من التضحيات التي لم تجد من يخلّدها.
أيضاً يجب أن تلعب المناهج التعليمية دوراً حيوياً في تضمين هذه الشخصيات النسائية في كتب التاريخ، بحيث تُعرّف التلميذة في المدرسة على نساء يشبهنها، ناضلن من أجل حقوقهن أو علمن أو كتبن أو قاومن. علينا أن نغرس في الأجيال الجديدة أهمية التعرف على النضال النسوي وتاريخ المرأة العربية بكل تنوعاته.
الفن يجب أن يلعب هو الآخر دوراً جوهرياً في هذا السياق، فنحن بحاجة إلى سينما ومسرح وتلفزيون يُعيدون الاعتبار لتجارب النساء في مختلف الحقول. للأسف، كثير من الأعمال الفنية تركز على قصص ملكات مثل زنوبيا أو كليوباترا، لكن التاريخ الحي والمعاصر للمرأة لا يُعطى حقه في الفن. يجب أن يتم تسليط الضوء على النساء اللواتي صنعن التاريخ بطرق غير تقليدية، في النضال الشعبي وفي المجالات العلمية والمهنية.
من المهم أيضاً أن نواصل دعم الباحثات والباحثين في مجال التاريخ النسوي. هؤلاء هم من يكشفون القصص المنسية ويؤرخون لمواقف النساء التي تعرضت للتجاهل. علينا أن نُشجعهن وندعمهن لتوثيق هذا التاريخ الذي يعكس صورة أكثر شمولية ودقة عن دور المرأة في تشكيل تاريخ العالم العربي.