أميرة اليعقوبي: تونس بلد غير آمن للنساء

شهدت تونس منذ الثمانينات بداية ولادة تيار نسوي مدافع بشراسة عن حقوق النساء في الولوج إلى مراكز القرار والقيادة، ذاك التيار الذي تطور وتوسّع وعرُف بجرأته وانتقاده اللاذع للسلطة

زهور المشرقي
تونس ـ .
تعتبر النسويات أن صراع الأجيال ليس في مصلحة أي طرف لاعتبار أن المبدأ والهدف والغاية واحدة ألا وهي النهوض بواقع المرأة وتغيير وضعها وبالتالي النهوض بالمجتمع.
وترى الناشطة النسوية التونسية والمختصة في علم الاجتماع أميرة اليعقوبي أن تونس بلد غير آمن للنساء، داعيةً إلى العمل من أجل محاربة العقلية الذكورية التي تعتبر سن قانون لمكافحة العنف ضد المرأة تهديد لفحولتها، مشددةً أن الطريق النضالي من أجل المساواة التامة في الأجر والحق في الميراث والعيش بسلام لايزال طويلاً ويتطلب جهداً إضافياً ونفساً قوياً وإصراراً.
 
أميرة اليعقوبي الناشطة النسوية المعروفة بدفاعها الشرس عن حقوق النساء في تونس، ما الدوافع التي جعلتكم تمضون قدُماً في هذا الطريق الوعر؟
نعم، كما وصفتِ هو طريق وعر وصعب واتخاذ القرار للخوض في هكذا مجال يحتاج شجاعة وجرأة خاصةً في بلدٍ عاش مخاضاً عسيراً منذ كانون الثاني/يناير 2011، لإعلاء الصوت والدفاع عن حقوقنا بل لانتزاعها وافتكاكها من المنظومة السياسية التي تسعى إلى سلبها منذ الثورة، والمعركة لا تزال طويلة جداً.
خضت تجربة الدفاع عن حقوق النساء لإيماني بالقضية قلباً وقالباً وللتنشئة الاجتماعية ودورها في نحت الشخصية ورسم الطريق الصحيح نحو الاختيار، ولأنني عشتُ في عائلة تؤمن بالحرية وبالاستثمار في الرأس المال البشري، وكان لوالدتي الفضل في تشجيعي على التمسك بإيصال صوت النساء المقهورات والاهتمام بأوضاعهن في كل شبر من تونس، ولها الفضل في استكمال مشواري الدراسي في اختصاص علم الاجتماع، ونحت الصخر للوصول إلى المكانة التي تمنت أن تراني فيها، ولكن قدر الموت كان الأسرع.
وربتني على القيم والتمسك بالحريات وأوصتني أن أي هدف طريقه وعر وبالمثابرة والعمل والاجتهاد نحقق ما نريد، وكانت تحفزني على فضح كل الممارسات التي قد أتعرض إليها في حياتي حتى لا أكون فريسة أحد في المجتمع الذكوري، وأن يبقى صوتي عالياً حراً مؤمناً بما أطمح للوصول إليه.
دعم والدتي وتشجيعها لي للخوض في هذا المجال الصعب كان محفزي الأول، فهي كانت ترافقني في المظاهرات والاحتجاجات وكانت سنداً حقيقياً لي والصوت الذي طالما حرضني على الاستمرارية.      
 
جمعيات نسوية عبرت عن ترحيبها بتعيين عشر نساء في الحكومة الجديدة، هل أنتم راضين عن نسبة وجود النساء في حكومة نجلاء بودن؟
أعتبر أن تعيين عشر نساء في فترة استثنائية تعيشها البلاد خطوة إيجابية يمكن تثمينها خاصةً وأن النساء كن غائبات عن مختلف الحكومات المتتالية منذ الثورة، وسجلن حضورهن في وزارة المرأة والأسرة فقط وشاهدن تمثيلية ضعيفة جداً وتعيينهن كان دائماً في مؤسسة العائلة، ولم نرى نساء في مراكز قرار مهمة ووزارات السيادة وذلك بسبب الإسلاموية أو ما يعرف بالإسلام السياسي الذي يسعى إلى تهمش المرأة وإبعادها عن المراكز المهمة بسبب النظرة الدونية لها.
لقد استغلت أطراف عديدة صورة المرأة كديكور فقط للاستمرار بتسويق كذبة أن تونس عاصمة للمرأة العربية والقدوة الأولى في مجال حصول النساء على حقوقهن، لكن الواقع مختلف تماماً وهذا يُلاحظ بإلقاء نظرة على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمرأة حيث الهيمنة واللاتوازن على مستوى العلاقات وتوزيع المناصب غير العادل للسلطات عكس ما جاء به الدستور، الذي برغم وجود خلل فيه إلا أنه يؤكد أن المرأة والرجل متساويان في الحقوق أمام القانون، ولكن ببلدنا يستحوذ الرجل على أغلب المناصب وخاصةً الوزارات السيادية التي تُحرم منها المرأة. 
تونس هي رقعة من العالم نساؤها يعشن ممارسات تمييزية كبيرة عكس الصورة المسوقة على أرض الواقع، ولا بد من الإشارة إلى أن تونس في السنوات الأخيرة تعيش تقهقراً في مجال الحريات وتصاعداً لنسب العنف بطريقة مفزعة. النساء يعانين من ارتفاع غير مسبوق لنسب العنف متعدد الأشكال ويدفعن ثمن النظرة الدونية الذكورية أمام مرأى السلطات.
اليوم لم ننجح في فصل صورة المرأة الأم والأخت والزوجة عن صورة المرأة القيادية الناجحة لذلك لا نرى تمثيلية كبرى للنساء، ويمكن رؤية ذلك من خلال الممارسات الصغيرة مثل تحجيب المرأة أثناء أداء القسم وكأننا نقول إن المرأة عورة ويجب تغطية شعرها.
طريق التحرير وعر وكل مرحلة لها مخاضاتها وإيجابياتها، أرى من الضروري إعادة النظر في تمثلاتنا الثقافية وعلاقتنا مع أجسادنا، باعتبار أن تحرير الجسد أمر له علاقة بالتقدمية والمجتمع المدني، بما أننا نخوض المعركة بمفردنا دون أي تدخلات فيجب علينا تحرير أجسادنا لوحدنا، وهو لا يتعارض مع القواعد والمعايير الاجتماعية، وحان الوقت للنساء في الحكومة الجديدة التي ضمت تمثيلية نسائية أن يفتخرن بما حدث، ولو أنني تمنيت أن يكون هناك وعي جندري أشمل بأهمية جمال الجسد الأنثوي وأهمية التغني به، لذلك أمامنا معارك أوسع وأكبر ومثل ما خضنا سابقاً معركة ولوج النساء إلى المقابر وكسرنا الحاجز في جنازة الناشطة النسوية والحقوقية لينا بن مهنّي، سنخوض معارك أخرى أقوى وأشرس من أجل النساء وخاصةً مع التهديدات التي مسّت الحقوق والحريات الفردية في تونس. 
 
بالرغم من صدور قانون يتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، لازالت النسب في ارتفاع مخيف... برأيكم أين يكمن الخلل؟
يعتبر القانون رقم 58 هو أول أسباب ارتفاع العنف ضد النساء في تونس وسأشرح تباعاً لماذا، إن العنف كظاهرة كانت موجودة ومنتشرة ولكن كان هناك طمس للأرقام التي تُعرض من قبل الهيئات المختصة كالديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، ولم تعتبر الآفة بالنسبة للسلطات مخيفة وكارثية إلى حين أكدت الأرقام قبل الثورة أن امرأة من بين اثنتين تقتل يومياً جراء العنف الذي استفحل في المجتمع ولم تكن السلطات توليها أي اهتمام، ليدق ناقوس الخطر بعد أن أصبحت الظاهرة مهددة للصحة العامة لتنطلق السلطات في وضع مخطط واضح لمجابهة الظاهرة التي مسّت عدداً كبيراً من النساء في الشارع والمنزل وصولاً إلى العنف على أساس النوع الاجتماعي، وبعد نضالات نسوية وتضحيات جسام جاء القانون الذي ذكّر العقلية الذكورية التسلطية البالية بأن المرأة التونسية لها مجلة أحوال شخصية صدرت عام 1956، منعت تعدد الزوجات ودعت إلى المساواة بين الرجل والمرأة, ومنحت العديد من الحقوق، لتكون مجلة رائدة في تلك الفترة التي صدرت فيها، وبالتالي بحسب تلك العقليات أخذت المرأة حقوقها.
وبمجرد صدور قانون لمكافحة العنف تصل فيه العقوبة إلى السجن، بات ذلك بمثابة تهديد للامتيازات الذكورية وتهديد لصورة الرجل الذي يمثل الحامي للمرأة، فالقانون جاء لفرض اللاستقرار وفق تلك العقلية لتكون ممارسة العنف كنوع من ردة الفعل على إصدار قانون يحمي النساء من العنف، خاصةً في فترة الحجر الصحي الشامل الذي عاشته البلاد وتضاعفت فيه النسب سبع مرات نظراً للوضع الاستثنائي الذي مرت به وهي الفرصة لممارسة الانتقام والتشفي بعيداً عن المساءلة القانونية. 
ومثل ذلك القانون هو بمثابة تهديد شخصي لمفهوم الذكورية والرجولة والفحولة والمركزية القضيبية التي نعيشها في تونس والتي تتمحور حول بقاء النساء كالظل الذي يتبع دون استقلالية. وبرأيي ارتفاع العنف هو نوع من ردة الفعل العنيفة على قانون يفترض أنه يحمي المرأة.
 
تطور النضال النسوي في تونس طيلة عقود من حيث الشكل والأولويات... هل لمستم هذا التطور؟ وكيف تقيمون العمل النسوي في تونس اليوم؟
لا مشروعية لي لنفي أو تجاهل المجهودات الجسام للنسويات عبر العصور في تونس لتحقيق المساواة التامة بين الجنسين ولفرض حقوق المرأة وإثبات وجودها في مراكز القرار، هن وضعن حجر الأساس ونحن تعلمنا منهن واستفدنا كثيراً حتى نواصل الطريق، لذلك أثمّن مجهودات الجمعيات الأولى التي تسلحت فكرياً للدفاع عن النساء خاصةً جمعية النساء التونسيات وجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، مع ملاحظة تطور مسألة الوعي الاجتماعي والنضالي التي لم تعد تجدي معها اليوم أشكال النضال التقليدية بسب تغير العديد من العوامل والأوضاع التي يشهدها العالم في إطار عصر الرقمنة والتطور التكنولوجي وعصر العولمة.
نحن اليوم لسنا أمام أشكال نضال لها علاقة بنظام قمعي أو اجتماعات في السر، بل اليوم نقاوم منظومة أخرى، نحن جيل النسويات ما بعد الثورة تختلف طرقنا ولدينا تطلعات جديدة وقراءة مختلفة، لكن فكرة تسليم المشعل في تونس لا زالت تحتاج إلى مراجعة بسبب صراع الأجيال حيث لم يتم بعد بناء ثقة كبيرة بين النسويات الشابات والجيل القديم، فبالرغم من أن طرق النضال تختلف لكن الأهداف واحدة، فهناك تيارات ورؤى ومدارس فكرية كثيرة.
شخصياً لم أعش سنوات الجمر والنضال في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ولكني الآن أعيش نفس المراحل بنفسٍ جديد وطرق مختلفة، وأرى أن الحركة النسوية في تونس تتطور يوماً بعد يوماً، حتى أنها وصلت حدّ الدفاع عن حقوق الأقليات الجنسية وقضايا أشمل وأكبر.
 
باعتبار أنكم من الناشطات بعد الثورة، هل يبدو النضال أصعب بالرغم من هامش الحرية؟
كل مرحلة لها خصوصياتها ومميزاتها وسماتها وباعتبار أني لم أعش فترات النضال قبل الثورة بإمكاني أن أتحدث عن طريق الدفاع عن حقوق النساء بعد الثورة الذي يعتبر طريقاً وعراً جداً لتغيير التعابير النضالية، فقد بات الجسد النسوي حاضراً بصوته وجماله وأنوثته، لم يقع التماهي مع نضال يطمس معنى أنوثتنا، المسألة تغيرت، حاولنا الخروج من أسطورة الخلط أن أجسادنا "سبب الخطيئة" التي أخرجت آدم من الجنة إلى الأرض، طريقتنا لها خصوصية نحن جيل شبابي نسوي جديد لأننا نعيش وضع مختلف نحارب الظلامية والإخوان بالرقص والغناء والألوان ونحارب كل محاولات الشد إلى الوراء من قبل القوى الرجعية التي تسعى لطمس هوية المرأة، نتغنى بأجسادنا كتعبير سياسي يرفض القمع ويقاوم من أجل الحقوق والحريات.
 
في ظل تراجع بعض المكتسبات والخوف على المس بالحريات الموجودة، ما الرسالة التي توجهونها للمرأة التونسية؟
في إطار التضامن النسوي والانتماء إلى ذات الهوية الأنثوية ووجود العديد من القواسم المشتركة، أقول إن الطريق لا تزال طويلة وتتطلب الكثير من الإصرار والعزيمة، ولا بد من السير دون توقف إذا كنْ فعلن يؤمنْ بمسألة تحقيق المساواة التامة والعدل والسلم الاجتماعي، والمعركة لا زالت طويلة للولوج إلى حقوقنا في الصحة والدفاع عن كينونتنا وهويتنا وحقنا في اتجاه مقاربة حقوق الإنسان.