التحرش الجنسي في وسائل النقل: أي وسيلة لمقاومته؟

"المتحرّش ما يركبش معانا.. المتحرش مكانه السجن.. المتحرش خطر علينا كنساء"، كلها حملات توعوية أطلقتها جمعيات نسوية تونسية خلال السنوات الأخيرة للتصدّي لظاهرة التحرش الجنسي في الأماكن العامة وخاصة وسائل النقل والتي زادت بنسبة 60 بالمائة وفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة حقوقية تونسية)

زهور المشرقي
تونس ـ ، حيث باتت هذه الظاهرة تهدّد سلامة المرأة التونسية النفسية والاجتماعية، والواقع أن طرق التحرّش قد اختلفت وتنوعّت ووصلت حدّ التصوير والابتزاز مقابل مبالغ مالية ضخمة.
تقول ألفة. ح (30) عاماً، إنّها تعرّضت للتحرش الجنسي أكثر من مرّة في وسائل النقل العامة وقد حاولت مقاضاة المتحرش بعد تصوير وجهه خلسة لكن لم تكن أدلّتها كافية لإثبات جريمته، حيث إن القانون في هذه الحالة لا يحميها وقد تنقلب الأمور ضدّها في صورة عدم الأثبات.
وأكدت أنها لم تختر الصمت حلاً بعد أن سبب لها أحد الحوادث مؤخراً أزمة نفسية، ودوّنت قصّتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في أكبر الصفحات التي تحارب جرائم التحرش في تونس، ولاقت تجاوباً من قبل الجمعيات النسوية التونسية التي وفّرت لها محامية دفاع ولا زالت قضيتها إلى اليوم منشورة في المحاكم.
ألفة. ح ليست الوحيدة التي تعرضت للتحرش في وسائل النقل، بل هناك الكثيرات غيرها، الخمسينية آمنة. م، تعرضت هي أيضاً في وسائل النقل لأشهر قضايا التحرّش المعروفة في تونس، وقد أحدثت قضيتها في السنوات الماضية ضجةّ، بعد ظهورها في برنامج تلفزي (عندي منقلك)، وعقب ذلك تدخلّت منظمات حقوقية وتفرّغت للدفاع عنها ومقاضاة المجرم.
رملة. ع (25) عاماً وهي طالبة جامعية، روت لنا قصّتها حيث أجبرت على التخلي عن ركوب وسائل النقل العامة واستخدام سيارة أجرة خاصة برغم غلاء أسعارها، درءً لمضايقات لفظية وجسدية طالما تعرضت لها من شباب وكهول خلال رحلة تنقلها بين البيت والجامعة.
الثلاثينية مليحة. س، تعرّضت للتحرش الجنسي في المترو، الأمر الذي دفعها إلى ترك دراستها بالعاصمة تونس والعودة إلى مقر سكنها بإحدى الجهات الداخلية، وقالت "في عام 2016 جئت بشغف لاستكمال تعليمي في اختصاص شبه طبي إلا أن ما عشته منذ الأيام الأولى خلال رحلة تنقلي بين المبيت الجامعي والكلية أدخلني في أزمة نفسية كبرى دفعتني إلى الانقطاع وتغيير التوجيه الجامعي"، لافتةً أنها تعرّضت للتحرش الجنسي ومحاولة تغيير الوجهة من قبل شابين، مؤكدةً أن تلك الحادثة أتعبتها لتجد نفسها مجبرة على أن تضع حد لدراستها. 
ويبدو أنه لا تطبيق "يزّينا" المجاني ولا كل الحملات التي أطلقتها وزارة المرأة والجمعيات النسوية ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أسهمت في محاربة التحرّش الجنسي في وسائل النقل بل إن الأرقام في ارتفاع مخيف، وتصفه نسويات بالكارثي حيث احتد وباء العنف مع انتشار كوفيد ـ 19 خلال السنتين الماضيتين، إلى درجة أن 9 من بين 10 فتيات يتعرّضن يومياً للتحرش الجنسي في وسائل النقل العامة بتونس، هكذا تقول الإحصائيات الرسمية، خاصة في ظل غياب الردع وضعف تطبيق القوانين التي من المفترض أنها قد سنّت ووُجدت لحماية النساء ضحايا العنف والتحرش بمختلف أنواعه. 
وتقول رئيسة مركز "الدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة" نجلاء العلاني لوكالتنا إن العمل على مناهضة العنف ضد النساء بمختلف أشكاله مستمر منذ سنوات، لافتة إلى أن المركز ظل موجوداً في الميدان بحملاته التوعوية لمناصرة القانون رقم 58 الصادر عام 2017، والذي جاء بعد دراسة معمقة قام بها حول العنف ضد النساء في الفضاء العام عام 2016 والتي بينت أن 53.5 بالمائة من النساء تعرضنَّ لأحد أشكال العنف، أي أن امرأة من اثنتين مورس عليها العنف. 
وتابعت أن تلك الدراسة كشفت حينها أن نسب العنف في وسائل النقل مرتفعة جداً، "نجد قرابة 89.5 بالمائة تعرضنَّ لعنف جسدي و91 بالمائة لعنف جنسي، ما دفعنا للقيام بمجموعة من الحملات منذ أيلول/سبتمبر 2017 حيث كانت أول حملة على الميدان وفي وسائل النقل تحمل عنوان "المتحرّش ما يركبش معانا" وذلك بالشراكة مع شركة نقل تونسية، والتي مكّنت المركز من التواجد في وسائل النقل بمنشورات توعوية للتعريف بالعنف ومحاولة إعطاء فرصة للضحية لمساندتها".
وشددت نجلاء العلاني على أن المشجع الوحيد على ارتفاع هذه النسب وتوغلها هو الصمت حيث إن 3% فقط ممّن مورس عليهن التحرش يبلّغن عن الجريمة، في حين تكتفي البقية بالصمت خوفاً من ردة فعل المجتمع السلبية التي ترى الضحية مذنبة. 
وتابعت أن مختلف الحملات لمحاربة التحرّش "ما تسكتش"، "حتى هوني تتحاسب"، "المتحرش ما يركبش معانا"، و"خلّيك آمنة" قد لاقت أغلبها ردود فعل إيجابية من مختلف الأوساط في تونس، لكن وجب الاستمرار في محاربة الآفة. 
ولفتت إلى أن مركز الدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة، قام بحملة أيضاً عام 2018 في محافظة صفاقس جنوب البلاد باعتبارها أكثر المحافظات التي يتفشى فيها التحرش في وسائل النقل العمومي، وكرّرت أيضاً في 2019 حملة رقمية  لاعتبار مواقع التواصل قد تكون وسيلة ناجعة لمناصرة المرأة ومناهضة كافة أشكال العنف ومن ضمنها التحرش في وسائل النقل وكانت فرصة لإنشاء تطبيق "تشات بوط" للتعريف بالقانون 58 وخاصة الفصل 19 الذي يدين المعتدي ويعاقب بغرامة مالية من 500 إلى 1000دينار تونسي كل من يعمل على مضايقة امرأة في فضاء عمومي. 
وذكرت أن المركز عمل أيضاً على محاربة العنف الرقمي من خلال حملة "خليك آمنة" لمناصرة النساء ومساعدتهن على فضح المعتدي، خاصة بعد الأرقام المفزعة التي تتكلم عن ارتفاع منسوب العنف في الفضاء الرقمي حيث إن 89 بالمائة من النساء تعرضن للعنف أي بمعدل 4 نساء من 5 وهو أمر خطير، قائلةً "المثير للخوف هو أن 95 بالمائة من النساء اللاتي تعرضن للعنف الرقمي التزمن الصمت". لافتة إلى أن القانون رقم 58 لمجابهة العنف يحمي كل الضحايا ضد هذا النوع من العنف. 
وتعتبر جريمة التحرش الجنسي من الجرائم التي أضافتها المجلة الجزائية لأول مرة عام 2004 عبر الفصل 226 الذي تم تنقيحه في قانون القضاء على العنف ضد المرأة سنة 2017.
ويتضمن القانون التونسي في تعريفه للتحرّش الجنسي "كل اعتداء على الغير بالأفعال أو الإشارات أو الأقوال تتضمن إيحاءات جنسية تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغبات المعتدي أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغط خطير عليه من شأنها إضعاف قدرته على التصدي لتلك الضغوط".
أما منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة فتعرّفان التحرش الجنسي بأنه "كل سلوك له إيحاءات جنسية غير مرحّب بها من قبل الطرف الآخر ويشمل أيضاً طلب خدمات جنسية أو تصرفات ذات طابع جنسي ويمكن أن يكون عبر الكلام أو النظرات أو عرض مواد جنسية في مكان العمل بحيث يراها الطرف المستهدف".
 
القانون التونسي
تقول المختصة في الشأن القانوني رباب حدّادة، إنّ إدراج التحرش الجنسي لأول مرة في تاريخ تونس ضمن أنواع العنف الجنسي المسلط على المرأة وتجريمه بشكل رسمي، يعدّ مكسباً هاماً للدفاع عن حقوق المرأة.
وأكدت على أن الفصل 226 من قانون "مناهضة العنف ضد المرأة" يعاقب المتحرش بسنتين سجناً وغرامة مالية.
وشددت على أن العقاب يكون مضاعفاً، أي 4 سنوات، إذا كانت الضحية طفلاً، أو إذا كان الفاعل له صلة مقربة من الضحية، أو إذا كان له سلطة عليها أو استغل نفوذه في وظيفة لها.
وعن إمكانية انقلاب الصورة على الضحية في صورة عدم وجود أدلة وتقدمها بشكاية، قالت "إن هذه الحالات نادرة جداً إذ يقع إثبات التحرش الجنسي بكل وسائل الإثبات المعلومة في المادة الجزائية على غرار الاعتراف والشهادة إضافة للإثبات عبر التصوير والتسجيل الصوتي الذي يقع معاينتهما من طرف عدل منفذ، كما يمكن الإثبات عبر كاميرات المراقبة.
وتنصح رباب حدادة الفتيات اللواتي يتعرض للتحرش الجنسي في وسائل النقل العمومي بفضح المتحرش والتقدم بشكاية إلى أقرب مركز شرطة، مشددة على أن القانون التونسي يحمي الضحية ويوفر لها لسان الدفاع، مؤكدة أن الصمت شجّع على توغل الظاهرة التي أصبحت مخيفة.
 
علم الاجتماع: القوانين لن تحدّ من التحرّش
وتعتبر المختصة في علم الاجتماع، صبرين عجرودي، أن ظاهرة التحرش الجنسي تزايدت بشكل ملفت في السنوات الأخيرة مع ارتفاع نسب العنف ضد النساء ومع انتشار المواد المخدّرة التي كثر استهلاكها بين فئة الشباب بين 14 و30 سنة وحتى أكثر من ذلك، مشيرة إلى أنه من المخيف جداً أن تتعرض 4 فتيات من خمس للتحرش الجنسي في وسائل النقل.
وأرجعت صبرين عجرودي ارتفاع النسب إلى ضعف تطبيق القانون برغم وجود فصول تحارب هذه الآفة، مشددة على أن مجابهة الظاهرة تتطلب جهوداً أسرية تربوية إعلامية مجتمعية عن طريق سن مناهج تعليمية قادرة على حماية النساء والفتيات من الاعتداءات المتكررة في وسائل النقل العمومي وغيرها.
وتعتبر صبرين عجرودي وسائل النقل من الأماكن التي يكثر فيها التحرش الجنسي، خاصة مع شدة الازدحام في الحافلات وعربات الميترو.
وتحذّر من أن التحرش الجنسي قد ينتهي أحياناً إلى الاعتداء بالعنف وحتى الاغتصاب.
وترى المختصة الاجتماعية صبرين عجرودي أن قانون مجابهة العنف من شأنه أن يحد من ظاهرة العنف المسلط على المرأة لكنه لن يقضي على هذه الظاهرة، وكشفت أن عدة دول منها فنلندا وإسبانيا سنت قوانين مماثلة لكنها لم تفلح في القضاء على العنف والتحرش.