العاملات في المصانع... بين هشاشة العمل والتهميش
سعت المرأة التونسية منذ الاستقلال إلى لعب دور محوري عبر المشاركة في الحياة الاقتصادية، بعد أن أثبتت حرصها وقدرتها على النجاح في مختلف المجالات
زهور المشرقي
تونس ـ ، وبرغم كل التضحيات والتغيرات التي أتاحت للنساء فرصاً أكثر للنهوض والتعبير عن أنفسهن وإحراز تقدم نحو تحقيق المساواة في المواطنة، إلا أن سياسة الإقصاء والتهميش في بعض الأعمال على غرار المصانع والمؤسسات العامة ظلّت على حالها.
أوضحت نساء يعملن في المصانع التقت بهن وكالتنا لتسليط الضوء على معاناتهن، أنهن تعرضن لممارسات في غاية الاضطهاد والاستغلال، سواء من حيث خفض الأجور مقارنة بالرجال، أو إخضاعهن للعمل لمدة ستة أشهر تحت زعم "التجربة" ثم طردهن واستبدالهن بأخريات على نفس المنوال هروباً من تعيينهن رسمياً وتفادياً لأي التزامات مالية خلافاً للقانون.
تقول سلاف.ح البالغة من العمر 28 عاماً لوكالتنا أن أغلب العاملات تتعرضن للإقصاء والتهميش فضلاً عن التمييز بينهن وبين الرجال، مستغربةً على سبيل المثال من السماح للرجال بالتمتع بعطل سنوية أكثر من النساء وفق قوانين أرباب العمل غير الإنسانية.
وأشارت سلاف.ح إلى أن أغلب النساء اللواتي يعملن بالمصانع يعانين من تهميش وظلم كبيرين من قبل أرباب العمل، خاصة أن معظمهن بمستوى تعليمي متوسط أو متدنٍ، منوهةً إلى أن القوانين الموجودة لا تطبق بل ظلت حبراً على ورق، ولا توجد متابعة فعلية، الأمر الذي يدفع بأرباب العمل إلى الاستمرار في استغلالهن.
وأوضحت سلاف.ح على أن أغلب عاملات المصانع تعملن دون عقود عمل أو تغطية اجتماعية، ودعت الاتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر منظمة شغلية بالبلاد، إلى تكثيف عمليات الرقابة على المصانع وإجبار أرباب العمل بالقطاع الخاص على توفير الظروف الملائمة للعاملات حتى يؤدين عملهن في أوضاع صحية واجتماعية جيّدة.
ونوهت إلى أن معظم الفتيات والنساء يتعرضن لمعاملة سيئة وتحرش ومساومتهن تحت ضغط الحاجة لكون العمل هو مصدر قوت عائلاتهن، وأن رب العمل يعلم جيداً أنهن لن تقاضينه خوفاً من الطرد التعسفي تحت أي مبررات خاصة.
وتتّفق مروى.ع البالغة من العمر 33 عاماً مع سابقتها، وأوضحت أنها وقعت ضحية تحرش جنسي من قبل ربّ عملها في مصنع النسيج بمحافظة جندوبة، منوهةً إلى أنها لم تستطع مقاضاته لخوفها من النظرة الدونية من قبل زميلاتها في العمل أو داخل المجتمع.
وتشير مروى.ع إلى أن "المعاناة تبدأ من أول يوم عمل حيث تعيش العاملة المبتدئة التمييز في الأجر وفي عدد ساعات العمل، هذا دون الحديث عن الحرمان من عقد العمل حيث نعمل وكأننا في سوق سوداء دون أدنى حقوق".
وأكدت أن "العيب يقع على النساء بسبب التردد والخوف والصمت أمام الظلم"، لافتةً إلى أن "حتى الأحزاب السياسية التي طالما كررت خلال حملاتها الانتخابية لحصد الأصوات وعودها بالنظر في وضع العاملات والفئات الهشة إلا أنها بمجرد ضمان مصالحها تنكر كل وعودها السابقة".
وتابعت "يسير النواب المنتخبون بالبرلمان على نهج سابقيهم في استخدام حقوق المرأة كأداة لأغراض سياسية، وخدمة لمصالحهم الشخصية لا غير، علاوةً على ذلك يتم الاستنجاد بالنساء لإضعاف خصومهم السياسيين ومغالطة الرأي العام وإخفاء تجاهل الأحزاب التام لمطالب المرأة التونسية"، داعيةً إلى "القطع مع هذه الممارسات التي ترى في المرأة سلعة للتجارة ولا يتذكرون حقوقها ومعاناتها في المصانع والمؤسسات الخاصة إلا في العيد الوطني للمرأة أو في أوقات الاستحقاقات الانتخابية".
بدورها ترى محرزية.ك البالغة من العمر 40 عاماً، وهي عاملة بأحد المصانع المختصة في صناعة المعلبات منذ 15 سنة، أن ما شاهدته من استغلال للنساء في المصانع طيلة فترة عملها تؤرخ في كتب تتحدث عن الاضطهاد والتلاعب بحقوقهن وسياسة التهميش الممنهجة، مستغربةً من أن تظل امرأة طيلة 5 سنوات متتالية تتقاضى نفس أجرها دون زيادة بدينار واحد في حين يتمتع الرجال بزيادة في أجرهم سنوياً، وبمنح تنقّل وأكل ومرض وتغطية اجتماعية.
ولفتت إلى أن النقابات الشغلية تعلم جيداً ما يدور في المصانع من انتهاك لحقوق النساء العاملات، إلا أنهم يتغاضون عمداً عن هذه المشاكل التي تخص العاملات باعتبار أن المرأة "تبذل أقل جهد في عملها".
وعن استغلال الشركات للنساء خاصة في قطاع الخياطة والنسيج تقول النقابية ألفة المستيري، أنه وبحسب قانون 1972 تتقاضى النساء أجراً زهيداً ضمن عقود محدودة في الزمن لجذب المستثمرين الأجانب، مع غياب التأمين الاجتماعي والصحّي، إضافةً إلى تعرض النساء للتحرش الجنسي في مكان العمل.
وتُرجع ألفة المستيري ذلك إلى غياب الإرادة السياسية وضعف دور المنظمات الاجتماعية الرقابي في تحسين وضع هؤلاء النساء، منتقدةً تصدر البعض المنابر الإعلامية للإيهام بالتزامهم الدفاع عن المرأة وحقوقها، لكنهم في الحقيقة يساهمون في اضطهادها وتراجع مكانتها في المجتمع واستغلالها.
وبحسب ألفة المستيري فإن الترفيع في ساعات العمل قد يؤدي إلى تدني إنتاجية الموظف وليس إلى رفعها، كما أن الإجازات تقوم بدور كبير أيضاً في تحسين الإنتاجية، عكس ما يظن أرباب المصانع.
وشددت على أن عدم الحصول على عطلة أسبوعية يضر بالعاملات وأصحاب العمل على حدّ سواء، إذ لن يرتفع الإنتاج ولن تشعر العاملة بالراحة النفسية والجسدية التي تساعدها في العمل والإبداع، واستذكرت دراسات قام بها باحثون أمريكيون أثبتت أن عطلات نهاية الأسبوع وغيرها تساعد في التعافي من الضغوط النفسية الناتجة عن بيئة العمل، بحيث يعود الموظفون إلى العمل بذهن صافٍ، ودعت إلى مراعاة العاملات وظروفهن الجسدية والنفسية والسهر على تركهن يعملن براحة.
بدورها ترى منسقة الحقوق الاقتصادية بالجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات رجاء الدهماني، أن الأوضاع الهشة للنساء العاملات في المصانع سبقت أزمة كورونا التي فرضت على العديد من العاملات في فترات متعاقبة الانقطاع عن عملهن ما أدى إلى توقف الحصول على أجورهن وفي كثير من الأحيان وقع تسريحهن من العمل بحجة الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم وتمر بها تونس.
وأشارت إلى أن مركز الإنصات والتوجيه استقبل نساء ضحايا العنف الاقتصادي المسلط عليهن داخل المؤسسات، ولوحظ تفاقم ظاهرة الظروف الصعبة التي تتنافى مع ما ورد في المواثيق الدولية الحامية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحتى مع مجلة الشغل.
وأوضحت أن الجمعية تعتبر مجلة الشغل تضم العديد من النقائص، ويجب مراجعتها لتتلاءم مع ما ورد في دستور عام 2014، الذي ضمن المساواة بين المواطنات والمواطنين في الحقوق والواجبات، وتضيف "برغم أن مجلة الشغل في تونس ساوت في الأجور بين النساء، لكن تبقى قطاعات عديدة تعاني من التمييز بحكم العادة والعرف وذلك نتيجة العقلية الذكورية".
وتلاحظ الناشطة النسوية رجاء الدهماني أن النساء العاملات في المصانع وإلى اليوم يعانين من مشاكل عدة لأنهن يعملن في ظروف صعبة لا تحترم في أغلب الأحيان الصحة والسلامة المهنية إلى جانب صعوبة التنقل إلى أماكن عملهن، لافتةً إلى أنه خلال الاستماع إلى بعض النساء العاملات اللواتي وقع استقبالهن من قبل لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لوحظت سرعة نسق التسريح من العمل بعد أزمة كورونا، وحتى بعد أن يتم تسريحهن لا تتم تسوية عادلة لمستحقاتهن، فأغلبهن يرفضن ما يقع اقتراحه عليهن كمستحقات، وتتفاقم الصعوبات إذا كان الزوجان يعملان في نفس المؤسسة، هذا إضافة إلى استفحال ظاهرة العنف بين رب العمل والعاملة، وهو ما حصل مؤخراً في مصنع بمحافظة القيروان وحتى في المناطق الصناعية بتونس أوصلت العاملات إلى المستشفى.
وأكدت على أنه "لا يمكن أن نقبل بتعلّل المؤجر اليوم بأزمة كورونا، ليلقي بألاف العاملات في الشارع في حين أن تونس وكما يعلم الجميع حتى في أصعب الفترات في تموز/يوليو 2021، التي حصدت آلافاً من الأرواح لم تتوقف البلاد ولا المصانع ولا المؤسسات عن العمل وعن الإنتاج بل استمرت بنفس النسق، ولا يمكننا أن نتحمل نحن كنساء مسؤولية الإفلاس السياسي وعدم التصرف الحكيم في إدارة الدولة والتصرف السليم في مواردها على حساب قوت العائلات والعمال وعلى حساب النساء الأكثر هشاشة في مجتمعات ذكورية تمييزية".
من جانبها علّقت الناشطة النسوية وأستاذ علم الاجتماع نهلة عكريمي قائلةً إن عمل النساء في المصانع يقوم على التمييز على أساس النوع الاجتماعي، برغم كل المحاولات الرامية إلى تغيير تلك العقلية البالية التي ترى في عمل النساء أقل جهداً، مشيرةً إلى أنهن كناشطات مدافعات عن حقوق النساء في الجهات قمن مراراً بالاجتماع مع أرباب العمل وأصحاب المصانع في محاولات لتثبيت حقوق العاملات وتحسين وضعهن.
وأضافت أنه برغم إثبات النساء كفاءتهن في مصانع النسيج مثلاً التي تُشغّل النساء أكثر إلا أن أرباب العمل يرفضون أن تكون رئيسة العمل امرأة بسبب تلك العقلية الذكورية المستفحلة التي ترفض ترؤس النساء العمل، حيث تجبر المرأة على القيام بمهن قاسية لا تليق بوضعها الجسدي برغم عنصر الكفاءة، "أرباب العمل في المصانع يفكّرون بعقلية أن الرجل قادر ومسموح له بالتحكّم في المرأة لكن العكس ممنوع وغير مرغوب بسبب العقليات الخاطئة المسيطرة".
وحول تخصيص وقت للراحة أثناء العمل، أوضحت نهلة عكريمي هناك تمييز بين الجنسي، فأصحاب المعامل لا يسمحون للنساء بالراحة سوى لمدة ساعة أو أقل في حين يتمتع الرجال بساعة ونصف إلى ساعتين، متسائلةً عن المغزى من ذلك والأسس التي اتخذ وفقها القرار الذكوري، إضافةً إلى عدم توفر وسائل النقل المناسبة حيث توفر الشركة أو المعمل حافلة صغيرة الحجم لأكثر من 40 امرأة، في حين أن الرجال يتمتعون بمنحة تنقل تظل النساء العاملات في المصانع محرومة منها.
وقالت إن في أحد المصانع بتونس تجبر النساء على العمل ليلاً فيما لا يعمل الرجال، لافتةً إلى أن أرباب المصانع يتحججون بأن الدراسات بينت أن القدرة الإنتاجية للمرأة تكون أكثر ليلاً، في حين أن الرجل تقل لديه لارتباطه بالتزامات أخرى في حياته، مستغربةً من هذه القرارات التعسفية وسياسة الاضطهاد التي تعيشها النساء في المصانع في مختلف الجهات ومن الإجراءات التي يتخذها هؤلاء للتحكم بالنساء في ضرب لكل القوانين الأخلاقية والإنسانية.
ودعت الجمعيات النسوية إلى التركيز على تحسين ظروف عمل النساء في المصانع ومضاعفة الجهود من أجل تغيير أوضاع النساء العاملات في وتحسين ظروف عملهن.
وبالرغم من تمكّن المرأة في تونس من تحقيق استقلاليتها المادية ومحاربة الأمية والجهل إلّا أنه في ظل ضعف الإرادة السياسية في عدة مجالات يستمر الاضطهاد والاستغلال خاصة في المصانع والأعمال الفلاحية باعتبار أن أكثر النساء اللواتي يعملن في هذين المجالين من غير المتعلمات.