شلبية كامل... مثال للمرأة التونسية الكادحة
لم يكن الفقر أو الخصاصة أو الحاجة دافعها الأول للعمل في قطاع تربية الأبقار وإنتاج الحليب وبيعه، بل كان الهدف تحقيق استقلالها المادي حتى لا تكون في تبعية لزوجها الستيني المتقاعد أو أبنائها الذين يعملون خارج القرية
زهور المشرقي
تونس ـ .
المرأة على مر العصور كانت وما زالت مصدراً للإنتاج في عملها سواء في البيت أو في النواحي الاقتصادية بمختلف مجالاتها، تقوم بعملها خارج المنزل جنباً إلى جنب مع الرجل بل إن مهامها الإنتاجية تفوق مهامه أحياناً، وهذا هو حال النساء الريفيات.
شلبيّة علي كامل، البالغة من العمر 60 عاماً، مثال للمرأة المتمرّدة في قرية ريفية محافظة جداً ومتمسكة بعاداتها وتقاليدها، هي مثال حيّ لحياة المرأة التونسية الكادحة، ولكنها تعمل وتجتهد برغم سنّها، فقط لإثبات ذاتها، حسب قناعتها.
من يقترب منها سيصاب بعدوى حب الحياة والطاقة الايجابية وبحب العمل وقداسته وأهميته بالنسبة للمرأة، علّمت نساءً كثيرات من خلال دورات مجانية كيفية تربية المواشي والأبقار ونحتت من خبرتها في هذا المجال لوحة فسيفساء جميلة في قريتها.
تقول شلبية علي كامل بلهجتها البدوية الجميلة "إن التمكين الاقتصادي لنساء الريف ليس فقط أساسياً لتحقيق رفاههن الشخصي وتوفير الرزق ومساعدة عائلاتهن، بقدر ما هو أداة لرفاه المرأة والمجتمع الريفي بأكمله"، نافية ما يروج حول تميّز المجتمع الريفي بالهيمنة الذكورية والسلطة الأبوية المطلقة، وتضيف "إن تربية الأبقار ليست مجرّد مهنة يومية بل هي قصة غرام وتفانٍ عمرها 35عاماً".
وتضيف "المرأة الريفية هي قوة إنتاج لا يمكن الاستغناء عنها في المجال الفلاحي والزراعي في تونس، وهي حلقة أساسية ضمن حلقات الدورة الاقتصادية خاصة فيما يتعلق بتأمين الغذاء، وأنا أوفّر الحليب والأجبان لأبناء قريتي بأسعار رخيصة جداً وفي متناول الجميع".
وتابعت ضاحكة "استيقظ يومياً في الساعة الخامسة صباحاً، مسرعة أقوم بإعداد وجبة الفطور الطبيعية المتكونة من جبن وحليب كمواد أساسية في قريتي المتواضعة، ثم ارتدي ملابس العمل وأهرول إلى الإسطبل حيث يبدأ يومي هناك مع البقرات، أُرضع العجول مستهلة يوماً متعباً ينتهي مع غروب الشمس، ثم أضع قدراً من الماء على الموقد لغسل ضروع البقرات قبل عملية الحلب، ثم أشرع في وضع العلف أمامها".
وتستطرد "تعلّمت طريقة حلب الأبقار وإعداد السَّمن البلدي والأجبان بمختلف أنواعها من والدة زوجي، باعتبار أن أفراد عائلة زوجي كلهم فلاحون بالرغم من أن هذه المهنة كانت تقتصر على الرجال فقط قبل خمسة وثلاثين عاماً، لتصبح اليوم نسائية بحتة، ومعظم من هن في هذه القرية يقمن بتربية الماعز والأغنام والأبقار ويعملن في مجال بيع الألبان والأجبان الطازجة".
وتأتي شلبية علي كامل بأواني الحليب بعد تنظيفها بالماء الدافئ وتبدأ بحلب بقراتها، ثم تخرج لانتظار سيارة بائع الحليب الذي يمر يومياً ليشتري منها حليباً طازجاً يأخذه إلى شركة مختصة في التعقيم والتعليب والبيع في جهتها.
وعن اختيار تربية الأبقار وبيع الألبان دون غيرها، تقول "اخترت تربية الأبقار وبيع الأجبان والألبان بمحبّة وشغف وعوّلت على نفسي وخلقت فرصاً لنساء كثيرات ومنهن فتيات تخرجن من الجامعة، اختصاص هندسة فلاحية باعتبار إن العمل في هذا المجال صعب بتونس".
وتشير إلى أنها علّمت بناتها أيضاً طريقة صنع الأجبان برغم أنهن متعلمات ويعملن في مهن أخرى، لكن العادة البدوية تلزم أمهات القرية بتعليم بناتهن تلك الصنعة التي تلقبها محدثتنا بـ "مهنة الجدود"، وتؤكد أنها تقوم بكل ما يستلزم إنتاج الألبان وصناعة السمن والجبن بمفردها لا لسبب بل لأنها اعتادت الاعتماد على نفسها والقيام بمختلف الأعمال بمفردها.
وعن الأسعار تقول "أرى أن أسعار المنتجات التي أبيعها مناسبة مقارنة بما يوجد في السوق التونسية، بالرغم من أنني أعتمد المادة الطبيعية مائة في المائة دون أي ملونات أو عقاقير، واستخدم في بعض الأجبان بعض الأعشاب الطبيعية، كالزنجبيل والقرنفل والزعتر البري وأقوم بخلطها مع الجبن لتعطي مذاقاً رائعاً، إلا أن هذه الأعشاب غير متوفرة لدي، لذلك اضطر إلى توفيرها من السوق وهي جد باهظة الثمن".
وتوضح أن سعر الأجبان الممزوجة بالأعشاب هي الأغلى "يصل الكيلو غرام الواحد من الجبن الممزوج بالأعشاب إلى 20 ديناراً تونسياً أي حوالي 7 دولارات، أما سعر الكيلو غرام من الجبن العادي فلا يتجاوز 6 دينار أي 2.5 دولار".
وعن موسم صناعة الأجبان الذي يمثل أحد أساسيات المونة الشتوية في العديد من الدول، تقول "تكثر صناعة الأجبان في موسم الربيع حيث يبدأ الحليب بالنضوب، فنغتنم الفرصة لإعداد كميات كبيرة من الجبن لبيعها وتوفير ما نحتاجه لاستهلاكنا الخاص".
وتعد فترة ما بعد الحصاد موسم صناعة الأجبان بأنواعها المختلفة، تعتمد عليه الأسر الريفية بشكل أساسي كمصدر دخل مهم.
ومن مشتقات الحليب تنتج شلبية علي كامل "اللبن والرايب التونسي"، وتقوم بإنتاج المونة الشهرية من الجبن الجاف وتستخدمه في صناعة المرطبات وبعض المأكولات الشعبية القديمة، وتعزو إقبال المرأة في الريف على العمل الفلاحي وخاصة تربية الأبقار بعزوف الرجال عنه، إلى أنه عمل يتطلب طول البال والصبر.
وعن الصعوبات التي بدأت تعترض سبيلها في بيع الحليب تقول إن السعر أصبح غير مناسب مقارنة بالمجهودات الكبيرة التي تُبذل من توفير الأعشاب والعلف والمياه للأبقار، إضافة إلى تنظيف المكان والحلب بالطريقة التقليدية.
وتمثل النساء الريفيات في تونس نسباً هامة من القوى العاملة المنتجة في الاقتصاديات تصل إلى 40 بالمائة، وتساهم بما يزيد على 30% من الأمن الغذائي.
وبحسب منظمات العمل الدولية فإن النساء الريفيات تعتبرن أحد العوامل الرئيسية لتحقيق التغييرات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية اللازمة للتنمية المستدامة وهو ما يمثل اعترافاً بدورهن الاقتصادي المرتبط بتوفير الإنتاج الفلاحي بمختلف مراحله وما ينتج عن ذلك من تحقيق الأمن والاكتفاء.